خاطب صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكةالمكرمة، أعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي في باريس عن مراحل التطور التاريخي للعاصمة المقدسة وسياسة المملكة في خدمة ضيوف الرحمن، وفيما يلي كلمة أمير مكةالمكرمة تحت قبة المجلس الفرنسي: «السيدات والسادة.. من عاصمة الإسلام مكةالمكرمة إلى عاصمة النور باريس، جئت لأتحدث إلى هذا المجلس العريق الذي أرسى ثلاثية الفكر الحقوقي المعاصر؛ الحرية، المساواة والإخاء. وحفل تاريخه بقرارات مضيئة ونماذج مشرفة للعقل والمنطق، وأثمن جهوده في تفعيل هذه القيم الإنسانية العليا، والتي تبناها الإسلام قبل أكثر من أربعة عشر قرنا. الحضور الكريم: لقد جاء محمد وموسى وعيسى عليهم السلام بكثير من المبادئ المشتركة، لأنهم يغرفون من معين واحد ولأن أبا الأنبياء واحد هو إبراهيم عليه السلام. والحضارة الغربية التي تمثل فرنسا اليوم ركنا رئيسيا فيها، تنتهج قيما يقارب أكثرها قيم الإسلام حتى لكأنه معينها ومرجعيتها: فالحضارة الغربية تؤمن بالإخاء الإنساني وقرآننا يقول «ولقد كرمنا بني آدم» هكذا بالإطلاق دون تفريق من أي لون، ونبينا يقول «أنا شهيد أن العباد كلهم أخوة». والحضارة الغربية تؤمن بالعدالة وقرآننا يقول «إن الله يأمر بالعدل والإحسان» ويقول «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، أعدلو هو أقرب للتقوى» كما أن الإسلام يأمرنا أن نعدل حتى بين أولادنا فلا نعطي أحدهم أكثر مما نعطي الآخر. والحضارة الغربية تؤمن بالتنوع الثقافي والتعددية كما جاء في الإعلان العالمي للتنوع الثقافي في عام 2001، وكتابنا يقول «يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا». وقد كانت الكوكبة الأولى من صحابة نبينا تمثل تنوعا فريدا؛ أبو بكر العربي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي وغيرهم. كما استوعبت دولة الإسلام على مر عصورها سائر الأديان والثقافات على أساس المبدأ القرآني «لا أكراه في الدين». والحضارة الغربية تؤمن بالثقافة والعلم وأول كلمة أنزلت في كتابنا «اقرأ» فحضارتنا تجعل الاشتغال بالعلم عبادة وقربى إلى الله. السيدات والسادة: لو ذهبت استقصي لأوردت الكثير من القيم المشتركة بما يعزز دعوتي إلى تحالف القيم الذي يجمع الإنسانية بسائر أطيافها وخاصة حضارة الإسلام المشرقية، بحضارة أوروبا الغربية. منطلقا بدعوتي من فرنسا التي يقول رئيسها «إن الحقيقة المتواجدة في جميع الديانات والمعتقدات والثقافات تتسم بشيء من الكونية التي تتيح لكل البشر أن يدركوا أنهم جزء من هذه البشرية وأن يتحاوروا مع بعضهم البعض ويفهموا ويحترموا ويحبوا بعضهم البعض». وقادما من المملكة العربية السعودية التي يقول مليكها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في السياق ذاته «إن الأديان السماوية الكبرى تجتمع على مبادئ التسامح الكبرى، وتشترك في قيم عظمى تشكل في مجموعها مفهوم الإنسانية، وتميز الإنسان عن غيره من المخلوقات». الحضور الكريم: إن مكةالمكرمةالمدينة المقدسة التي أشرف بخدمتها في إمارتها، وأحلم بأن تكون من أجمل مدن العالم، قد شهدت قبل ظهور الإسلام بقليل قيام (حلف الفضول) ما يمكن أن نعتبره واحدا من أقدم الأحلاف الإنسانية وقد حضره النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو في العشرين من عمره قبل تكليفه بالرسالة، حيث اجتمعت قبائل مكة وتعاهدوا ألا يتركوا فيها مظلوما من أهلها، أو ممن طرأ عليها إلا وقفوا معه حتى ترد له مظلمته. ومنذ ذلك التاريخ ومكة تسجل مواقفها الإنسانية البيضاء. وبعد ذلك الحلف بنحو أربعة عقود شهدت مكة خطبة لرسول الإسلام أوضح فيها لكل البشر مبادئ حقوق الإنسان، وأسمحوا لي أن أذكر لكم بعض ما تضمنته الخطبة، لندرك أن التحالف الذي أدعو إليه واقع فعلي لولا الغشاوة على عيون البعض، حتى لا يكاد يعرف أحدهم الآخر. لقد بدأها محمد بقوله «يأيها الناس» فخاطب الإنسانية كلها بسائر أعراقها وأجناسها وألوانها ثم استرسل في تقرير القيم العليا («إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» في تشريع يحمي النفس والعرض والملكية والأمن لكل الإنسانية. «إن لنسائكم عليكم حقا، ولكم عليهن حق» تأكيدا على حقوق المرأة وبيانا لواجباتها في توازن عادل. «إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وأدم من تراب» تأصيلا لمبدأ الحرية والمساواة. هذا بعض ما جاء في خطبة الوداع التي شهدها موسم الحج آنذاك، هذا الموسم الذي كان ولا يزال يمثل صورة فريدة لحقوق الإنسان فهو أكبر تجمع بشري لم يدع إليه بشر وليس له توجهات سياسية ولا يقف مع تيار ضد آخر، يترفع بالإنسان المسلم عن الأهواء ويرتقي من العناصر الدنيوية إلى القيم الإنسانية. ومن هذه الخطبة الوثيقة التي انطلقت من مكة اسمحوا لي أن أصحبكم إلى مكةالمكرمة نفسها لتشاهدوا من خلالها وعبر إنسانها وأرضها وشعائرها ومشاعرها تطبيقا حقيقيا للقيم التي أسلفت الحديث عنها، وشاهدا واقعيا لمضامينها، فإلى العرض: - شاهد الحضور فيلما وثائقيا تناول إنسانية الحج في مكة منذ بداية تاريخها حتى الوقت الحالي-. واستطرد الأمير خالد الفيصل خطابه قائلا: هذه هي مكة بمنزلتها الدينية، مكانتها الحضارية، ورمزيتها الإنسانية منذ القدم، وها هو خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز قد سجل بادرة إنسانية كبرى بدعوته إلى مؤتمر حوار الأديان الذي عقد في نيويورك عام 2008، ولا تزال جهوده ماضية في تفعيل هذا الحوار من أجل سلام العالم ورفاهيته. وأجدها فرصة أن أوجه الدعوة لإنشاء (مركز ثقافي سعودي فرنسي) يكون ميدانا حيا للتفاعل الإيجابي الخلاق بين هاتين الثقافتين الأصيلتين. ختاما شكرا لدعوتكم ولإصغائكم».