ترددت كثيرا، بل واستعصى على قلمي، فمنذ شهرين وأنا أحاول الكتابة عن موضوع كلما لاح أمامي حاولت تنحيته أو تجاهله أو التقليل من تأثيره على نفسي.. ولكني لم أستطع.. فلهذا أحببت أن أتخلص مما أصبح يقلقني، رغم أنني لم أصدق فعلا أن الرجل قد ترك موقعه الذي ألفناه فيه والذي وضع فيه علامات وصورا لا تنكرها عين أبسط الناس رغم أنه لم يمض فيه سوى أربع سنوات بدلت وغيرت وأحدثت وحفرت وتركت الأثر الإيجابي البالغ الذي لمسه الجميع. ترك موقعه كوكيل لوزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية في الأول من شهر محرم 1431ه على أن يتمتع بإجازة لمدة شهرين، ينهي بعدها علاقته بالوزارة كمتقاعد، إلا أنه وبحكم رئاسته لمجلس إدارة الجمعية العربية للثقافة والفنون فقد بقي يدير العمل حتى يحين تقاعده في منتصف ربيع الأول 1431ه الأول من مارس 2010م، ومع ذلك لم يتغير فيه شيء فقد بقي على حرصه وحماسه واستعداده لتلبية حاجة أو تذليل صعب اعترض طريق أحدهم.. فبحكم قربي من الرجل الدكتور عبد العزيز السبيل فهو لم يبخل على أحد بجاهه أو بواسطته.. فقد كنت في معرض الكتاب الدولي في القاهرة.. وبعد تركه لمنصبه بنحو الشهر ومع ذلك اتصلت به واتصل به غيري من أجل أن يتوسط لهم بالاشتراك في معرض الرياض الدولي للكتاب لهذا العام.. فهم لا يعرفون غيره.. أو هو الأقرب الذي لا يمانع في الاستماع لكل من طلبه على هاتفه في أي وقت في أي مكان.. بل ويسعى لتحقيق ما يطلبونه هو جبل على هذه الروح. وبل وأصبحت خدمته للغير من أولى اهتماماته. هل أعتبر هذا مقدمة لما يعتمل في صدري ويتفاعل في نفسي، عرفت الرجل قبل خمس عشرة سنة في جدة حيث كان يعمل في جامعة الملك عبد العزيز، فقد كنت هناك لمقابلة بعض الرواد والتسجيل معهم ضمن برنامج التاريخ الشفهي للمملكة والذي كلفني به الدكتور يحيى محمود بن جنيد أمين مكتبة الملك فهد الوطنية آنذاك لقد تعرفت وقتها على الدكتور أبو بكر أحمد باقادر الذي رافقني مشكورا عندما كان رئيسا لقسم علم الاجتماع في جامعة الملك عبد العزيز عند مقابلة الأساتذة محمد علي مغربي ومحمد علي خزندار وعبد الله بالخير وعزيز ضياء رحمهم الله في هذه الأثناء كان باقادر عضوا في مجلس إدارة نادي جدة الأدبي، وكان السبيل عضوا في إحدى اللجان الفرعية وكانوا يخططون لإصدار مجموعة من الدوريات أذكر منها (الراوي، وجذور، وعبقر) لترافق مجلة النادي المميزة (علامات). وتحسن العودة لمقال الأستاذ محمد علي قدس في الأربعاء 9 1 صفر 1431ه عن دوره في نادي جدة الفاعل رغم أنه ليس عضوا رسميا فيه. في إحدى الليالي دعوني لمرافقتهم للبحر لحضور تكريم زميلهم محمد الشوكاني الذي تولى رئاسة تحرير صحيفة سعودي جازيت التي تصدر باللغة الإنجليزية. عرفت أثناءها الدكتور حسن النعمي زميل السبيل وصديقه، وكان أن سلمني السبيل مخطوطة مجموعة النعمي القصصية (حدث كثيب قال) لإيصالها إلى دار الكنوز الأدبية في لبنان لطباعتها، وفي اللقاء الثاني بعد سنة زرت نادي جدة الأدبي لحضور محاضرة للدكتور الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد وأذكر أنها عن موضوع (فقه الاختلاف) وكان مقدمه الدكتور السبيل فتعمقت علاقتي به ووعدني بزيارة مكتبة الملك فهد الوطنية في الرياض برفقة والده الشيخ محمد السبيل إمام الحرم المكي والرئيس العام لشؤون الحرم المكي والحرم النبوي، والذي تحقق ذلك بعد شهر فعلا وجاء مع والده وأخيه الشيخ عمر رحمه الله وقد حضر بكل تواضع وبساطة وسجلت معه سيرته ومسيرته الحياتية مع التركيز على حادثة الحرم أو ما يسمى احتلال جهيمان العتيبي للحرم ومنع الصلاة فيه لمدة أسبوعين وبحكم أنه من أم المصلين فجر يوم الاقتحام والاعتصام مطلع عام 1401ه.. كان أبو بكر باقادر يمازح السبيل في نادي جدة عندما كان يسعى الأخير للانتقال لجامعة الملك سعود في الرياض وكان الأول يقول إنه يطمع في أن يكون قرب مركز اتخاذ القرار، فقد يكون يوما وزيرا، وكان يرد عليه السبيل الله أعلم بمن يطمح لهذا؟.. على أية حال أخذني الاسترسال عن الموضوع، انتقل السبيل فعلا للرياض وعمل في جامعة الملك سعود كلية الآداب وتعاون مع جريدة عكاظ ومع النادي الأدبي في الرياض إضافة لرئاسته مجلة (الراوي) التي صدرت من نادي جدة الأدبي، ثم عضويته لمجلس إدارة نادي الرياض التي لم تستمر طويلا، ولكن علاقته بكل المثقفين على مختلف فئاتهم ومشاربهم عميقة ووثيقة. أصبح وكيلا لوزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية، وبدأ بتصحيح وضع الأندية الأدبية وضخ الدماء الجديدة فيها، ثم بدأ التخطيط لتبني ونقل المعرض الدولي للكتاب لمسؤولية الوزارة، أعقبها إحياء أو عودة جائزة الدولة التقديرية للأدب، والتحضير لإعادة طباعة بواكير كتب الأدب والتي رأت النور قبل وبعيد توحيد المملكة مثل: خواطر مصرحة لمحمد حسن عواد، وأدب الحجاز، والمعرض لمحمد سرور الصبان، ومطوفون وحجاج لأحمد السباعي، وحتى الأدب في الخليج العربي لعبد الرحمن العبيد وغيرها، وهي الكتب التي طبعت لمرة واحدة قبل ما يزيد على ستين أو سبعين سنة ولم تعد طباعتها. عمل على إعادة تشكيل مجلس إدارة الجمعية العربية للثقافة والفنون وتوسعة مهامها، مع طرح فكرة المراكز الثقافية وتحويل مقار المكتبات العامة في المدن الصغيرة والقرى والتي لا يوجد فيها أندية أدبية أو فروع لجمعية الثقافة والفنون. وكذا تأسيس وإنشاء الجمعيات الثقافية أو ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني وقد انتخب فعلا مجالس إدارات لتلك الجمعيات ومنها جمعية المسرحيين وأخرى للتشكيليين وثالثة لجمعية المصورين ورابعة للخطاطين.. إلخ. لقد استعان الدكتور السبيل بمجموعات من الأكاديميين وأشركهم في لجان استشارية ليستفيد من رأيهم ومشورتهم.. واقترح في عهده تأسيس قناة ثقافية تلفزيونية، وإعادة صياغة لائحة الأندية الأدبية وتنظيم الجمعيات العمومية التي سينتخب منها أعضاء مجالس الإدارات. مع تكريم الرواد في مناسبات افتتاح المهرجانات ومعارض الكتب، وكنت والله يعلم أرثي لحاله وهو يتنقل بين مناطق المملكة شبه يومي عند تعيين وانتخاب أعضاء كل مجلس إدارة ناد أو عند أدنى مشكلة أو خلاف يذهب بنفسه ليحلها.. بل إنني أعرف أنه سيكون مثلا هذه الليلة في اجتماع اللجنة الثقافية في مجلس التعاون الخليجي في قطر وهو في الغد لا بد أن يكون في حائل، وإذا بي أراه صباح الخميس فعلا يحضر محاضرة لأستاذنا عبد الفتاح أبو مدين في خميسية حمد الجاسر، وأعرف أنه في اجتماع متواصل في الوكالة حتى منتصف الليل وهو مسافر ظهر اليوم إلى قطر وأسأله: هل ألغيت سفرك؟ فيقول: من هنا سأذهب للمطار. وهكذا !!. وسمعت قبل أشهر من تركه منصبه بأنه قرر التقاعد المبكر.. وترددت في سؤاله وتشجعت وأنا أرافقه مع الصديق الدكتور عبد الله الوشمي بعيد عيد الأضحى، في زيارة لمدينة الأمير سلطان للخدمات الإنسانية لزيارة الشاعر والأديب محمد الثبيتي شفاه الله وعافاه فقلت: هل صحيح ما أسمعه ويتردد بين الناس من أنك سترحل؟ فقال إنني منذ زمن طويل وأنا أفكر وقد قلت لمعالي الوزير عبد العزيز خوجة عند تسلمه لمهامه إن أيامي معكم معدودة.. وذكر لي عدة أسباب منها ما هو مقنع ومنها ما هو غير مقنع.. ومع ذلك قلت إن هذه مسؤولية وإنك قد عملت وأسست وحفرت فهل تعتقد أن عملك سيبقى كما رسمت له؟ فقال إنه يأمل ذلك.. فسكت عن الكلام لوصولنا للمستشفى. لعلي أختم حديثي هذا بالإشارة لما كتبه الصديق الدكتور محمد بن عبد الله العوين في جريدة الجزيرة ليوم الخميس 4 ربيع الأول 1431ه الموافق 18 فبراير 2010م بعنوان (رؤية نقدية متأملة لمشروعنا الثقافي السعودي) وهو الذي عمل لأكثر من سنتين مع الدكتور السبيل، وانتقل بعدها كعضو هيئة تدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. فقد ذكر من أسباب ضعف الإنجاز الثقافي: ((.. ضعف البنية الإدارية للوكالة، وقلة موظفيها، وعدم توافر متخصصين معنيين بالعمل الثقافي، وعدم وجود هيكل إداري ثابت ورسمي يشغله موظفون رسميون أكفاء، ومن ذلك شغور مقاعد وظيفية تحت الوكيل كمدير عام ونائب أو مساعد للوكيل يغطي النقص أو يعين أو ينوب وقت غياب المسؤول، ويفتت من هيمنة المركزية وتقاطر الأعباء من كل الجهات والإدارات على مسؤول واحد، الذي لن يستطيع مهما بلغ من قدرة وهمة ونشاط وكفاءة على متابعة كل التفاصيل والعناية بكل الأمور والإحاطة بما يجب عمله في كل مرفق. ومن تداعيات الشح المالي والوظيفي ضعف التشجيع والتحفيز على الإبداع في أداء المهمات التي يكلف بها الموظف، بالترقية والمكافأة المالية ... إلخ)). وسبق أن ذكر الدكتور حسن النعمي في مقاله في جريدة عكاظ عدد يوم السبت 8 صفر 1431ه أن الدكتور السبيل يحمل مشروعا تنويريا امتدادا لما كان منذ صدور كتاب (خواطر مصرحة) لمحمد حسن عواد قبل 86 سنة، إذن هو يقود مسيرة التحديث الثقافي. وهذا صحيح، فالإنسان بلا هدف ولا قضية هو إنسان هامشي.. وحاشا لله أن يكون السبيل هامشيا.. إنني أكتب متأخرا، إذ كان لا بد لي من أن أكتب قبل تقاعد السبيل، وأنبه إلى خطورة الوضع. إن مشروعنا الثقافي التنويري رغم عدم ارتباطه بأشخاص يحتاج إلى عقول نيرة، وسواعد قوية، وهمم عالية، وفكر متفتح، ونظرة مستقبلية ثاقبة، وهذه كلها لن توجد في الخيال، أو نستوردها مع ما نستورد، بل تحتاج إلى أبناء هذا الوطن المخلصين، المتنورين، الذين يمتلكون قدرة على التخطيط وبراعة في التنفيذ، وهمة في تجاوز العقبات. وأحسب عبد العزيز السبيل منهم، فإن كان قد تقاعد واستقال، فإن وزير الثقافة والإعلام وأركان وزارته مدعوون، بل مطالبون باختيار من هو مثل السبيل في فكره، ونشاطه، وهمته، لكي يبقى مشعل الثقافة نيرا، وليسير مشروعنا الثقافي قدما إلى الأمام، لا إلى الخلف.. لا قدر الله. وبالله التوفيق. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 143 مسافة ثم الرسالة