القتل بدم بارد، ربما كان هذا هو العنوان الأنسب للجريمة التي هزت حي الصفا في جدة، وشاهدها العشرات حية على الهواء، عندما أقدم عامل مصري على قتل اثنين من بني جلدته بأعصاب باردة، فقد انهال عليهما بطعنات متتالية دونما رحمة أو هوادة ولم يتوقف عن طعنهما، إلا بعد أن خارت قواهما وهدأت أنفاسهما. وتكشفت الجريمة عندما شاهد عابرو شارع أم القرى وأصحاب المحلات أحد الوافدين يركض مترنحا والدماء تنهمر من جسده بغزارة، فيما كان شخص يلاحقه يحمل سكينا في يده وجهها نحو ظهر الهارب، حيث سدد له طعنة تسببت في سقوطه، ليقفز فوق صدره ويشرع في توجيه طعنات متتالية إلى صدره وجسده وتوقف بعد دقائق، بعد أن أجهز على خصمه، ليقف بجوار الجثة لثوان، ثم ركض بعد ذلك لمسافة، إلا أن شابين شاهدا ما قام به، فلحقا به خلفه وتبعهما أحد رجال الأمن الذي تواجد في الموقع وألقى ثلاثتهم القبض عليه، وتقييد حركته وما هي إلا لحظات حتى وصلت الدوريات لتتحفظ على مسرح الجريمة. في تقصي رجال الأمن للدماء التي كانت على الأرض، قادهم ذلك إلى إحدى الغرف الخلفية في فناء عمارة، وكانت المفاجأة وجود شخص ممدد على الأرض، قد لفظ أنفاسه وظهرت عليه آثار عدة طعنات في أجزاء متفرقة من جسده، بينما آثار الدماء في كل موقع داخل الغرفة. الأسباب والدوافع السؤال المحير الذي يطرح نفسه: ما الدوافع التي حدت بالجاني لقتل ضحيتيه بتلك الوحشية دون أن يرف له جفن؟. وهل كانت المبررات التي ساقها لقتلهما كافية؟ بداية يؤكد استشاري الطب النفسي وعضو الجمعية الأمريكية للطب النفسي الدكتور محمد الحامد أن الأسباب مهما كانت غير كافية لارتكاب جريمة بهذه الصورة، ذلك أن ما أقدم عليه الجاني يشير إلى أنه يحمل الكثير تجاه ضحيتيه، خصوصا في ظل كيل الطعنات لضحيته الثانية في الشارع العام أمام عشرات الشهود، مايشير إلى وجود خلل في الأسباب التي اعترف بها. تلك الأسباب التي حددها بمطالبات مالية، وبسبب استخفافهما به غير كافية، فهناك أسباب طبية نفسية وراء ارتكابه لجريمته، مشيرا إلى أن مثل هذه الجرائم غالبا ما يحدث في قضايا الشرف أو الثار، وإن كانت جرائم الثأر أقل من الشرف. وأضاف الحامد أن مرتكبي مثل هذا الجرائم في حال وجود سبب نفسي عادة ما يكون بسبب معاناة القاتل من مرض عقلي قد يكون «فصاما مسبقا» لم يأخذ لأجله أي علاج أو لم يكن يعلم أنه مصاب به أصلا، ذلك أن مرض الفصام يضلل صاحبه بعدة أفكار وأوهام قد تدفعه إلى ارتكاب جريمة، حيث يصاب بهلوسات تشير إلى أن ضحيته يريد الإضرار به، وهو ما يجعله يقدم على فعلته. وأشار الحامد إلى أن وقوع الجاني تحت تأثير سوء استخدام العقاقير، قد يكون أيضا سببا في ارتكاب جريمته، وقال: عادة مايتسبب سوء استخدام العقاقير في حدوث ذلك لتأثيراتها على عقل مستخدمها. ويخلص الحامد إلى أن اعتراف الجاني بارتكابه هذه الجريمة غير كاف لارتكابها، فهناك أمر غير طبيعي قد يكون القاتل يخفيه، فقد قتل ضحيته الأولى، وانتظر بجواره عدة ساعات قد تكون كافية للإنسان الطبيعي أن يعي ما أقدم عليه من جريمه يعاقب عليها القانون، ولكن في هذه الحالة ظل القاتل بجوار ضحيته ساعات، قبل أن يعود لارتكاب نفس الفعل، ولكنه في هذه المرة أمام عشرات الشهود وهو ما يعزز الشبهات في وجود سبب آخر يخفيه القاتل. قتل العمد والغيلة من جانبه أشار المحامي والمستشار القانوني عبيد بن أحمد العيافي إلى أن من الضرورات الخمس التي أمر الإسلام بحفظها النفس، ولهذا شدد في عقاب من قتل نفسا بغير حق في الدنيا والآخرة، فعقابه في الدنيا إزهاق نفسه، كما أزهق نفس غيره، لأنه اعتداء على خلق الله، واعتداء على الجماعة والمجتمع. ويضيف العيافي: بالنسبة لهذه القضية، فهناك عدة تساؤلات حول الحالة التي كان فيها المجني عليه الأول في شقته حال ارتكاب الجريمة، إذ من الممكن أن يختلف التكييف والوصف الجرمي للجريمة من قتل عمد إلى قتل الغيلة، وهو من أشد أنواع القتل، ولايخفى أن هذه الجريمة بشعة من حيث إجهاز الجاني للمجني عليه الأول في شقته، وملاحقته المجني عليه الثاني في الشارع العام وبث الرعب والخوف في قلوب المارة، إضافة إلى حيازته واستخدامه للسلاح الأبيض، ولابد أيضا من معرفة الدوافع التي أدت لارتكاب الجاني لهذه الجريمة، حتى يتم تكييف الجريمة بصفة دقيقة وسوف يتكشف لاحقا من التحقيقات، ورفع الأدلة الجنائية من مسرح الجريمة الكثير من الحقائق. ويعزو العيافي ارتكاب مثل هذه الحرائم إلى أنها قد تصدر في الغالب من أشخاص يدفعهم هذا الفعل بسبب تعطل طموحاتهم وتعثرهم، فتجدهم لا يجدون منفذا من هذا الأمر سوى تمني الخلاص من الواقع، وهنا ربما تكون هذه الأمنية وهذا الشعور دافعا للتهور وعدم المبالاة بالحياة، مما قد يوطد الكثير من التوجهات الإجرامية مثل الانتحار، القتل، الجرائم الأخلاقية، السرقات، المخدرات، إلخ. وهناك الدوافع الثأرية بين الجاني والمجني عليه، فكثير من حوادث القتل التي تتم داخل البلاد تقع بسبب دوافع ثأرية وتصفية حسابات، وإذا اجتمعت الظروف المواتية والسلاح المناسب، فيمكن أن تحدث الجريمة وبعض هذه الجرائم تتم عن سابق تصميم، ومن شبه المستحيل معرفة ما سيقدم عليه مثل هذا الشخص مسبقا ومتى وأين؟. ويرى العيافي أن هذا الواقع يحتاج إلى دراسة اجتماعية وأمنية تخرج بنتائج وحلول، وليس مجرد دراسة واقع فقط يقف عند حد اكتشاف الأسباب والاكتفاء بالوقوف عند هذه النقطة، خصوصا ونعلم أن مجتمعنا يمثله نسبة عالية من المقيمين الذين يعملون في البلاد بمختلف المهن قد تتجاوز المعدلات الطبيعية.. من جانبها ترى المستشارة القانونية فريال كنج أن القاتل بمثل هذه الوحشية لا يتحرك إلا بوجود دافع كبير وقوي في داخله، لم يفصح عنه خلال التحقيق وكان السبب المباشر لارتكاب الجريمة. وقد يدخل ذلك في جانب الشرف والثأر، وهو ما جعله يترصد لضحيته ليقتله بطريقة وحشية وعنيفة، وارتكاب القتل بهذه الطريقة، نافية أن يكون السبب الذي ساقه وحدده في خلافات مالية هو الدافع الوحيد إلى القتل، مرجحة فرضية أن القاتل يخفي في داخله السبب الحقيقي، فقد تحول إلى بركان هائل وهائج لم يخمد، إلا بعد أن تأكد من وفاة ضحيتيه؟.