يقف الشاب ياسر الغامدي أمام بقايا سيارته التي تحطمت في سيل كارثة جدة الأخير وراح ضحيتها شقيقه وشقيقته ونجا من الحادث بأعجوبة يتحدث بحسرة وألم : «من يرد لي أخي وأختي»، ويستدرك : «أعلم أنه قدر الله ولكن لن يشفي غليلي إلا محاكمة المتسببين في هذه الكارثة والتشهير بهم». ويبدو أن المحاكمة والتشهير بالمتسببين في فاجعة جدة ليست مطلب ياسر وحده بل هي مطلب آلاف العائلات التي تضررت ماديا ومعنويا جراء الكارثة وفقدت أكثر من 150 ضحية في مأساة غير مسبوقة، فالجريمة كبيرة وضررها يدل على فداحتها، فتشريد أكثر من سبعة آلاف عائلة ليس بالرقم الصغير، مما جعل المجتمع يطالب بالتشهير بالمتورطين في هذه الكارثة، وبدأت هذه الدعوات تتصدر صفحات الجرائد ووسائل الإعلام المختلفة خصوصا أنها تعتبر قضية الفساد الأولى التي تتصدر الرأي العام في المجتمع السعودي الذي لم يتعود على حدوث مثل هذه الأزمات الكبرى. ورغم أن قضية التشهير ليست بالجديدة في السعودية خصوصا أن الأمير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية سبق أن أصدر قرارا يقتضي بالتشهير بمهربي ومروجي المخدرات ونشر أسمائهم وصورهم في وسائل الإعلام ليكونوا عبرة في سنة 1408 ه، كما طبقت السعودية نظام التشهير والغرامة للوكلاء غير المنتظمين بتأمين قطع غيار أصلية للسيارات لما تسببه من ضرر على حياة مستخدمي السيارات، وفي الجانب الطبي بدأت الحكومة بتطبيق عقوبة التشهير على مرتكبي الأخطاء الطبية سنة 1426ه، ولم تتوقف قافلة التشهير عند هذا الحد بل شهر ببعض المتورطين في قضايا المساهمات الوهمية لسوا والبيض والأراضي وخلافها وبعض المتورطين في قضايا الإرهاب والتزوير. وبقيت قضايا الفساد وحدها لم ينل مرتكبوها عقوبة التشهير بشكل كاف إلا في بعض الحالات القليلة خصوصا في ظل ارتفاع حجم الفساد المالي والإداري والتي تفصح عنه الأرقام السنوية التي تنشرها هيئة الرقابة والتحقيق حيث أحالت الهيئة في الثلاثة الأشهر الأولى من سنة 1430ه ( 741) قضية رشوة وفساد إلى ديوان المظالم، وأعلنت عن إصدار أحكام سجن وغرامة على قرابة 880 موظفا تورطوا في قضايا فساد في نهاية هذه السنة، ولم تتوقف الأرقام عند هذا الحد فقد كشفت الهيئة في سنة 1429ه عن حوالى (6821) قضية استغلال نفوذ ورشوة وتزوير واختلاس في الأجهزة الحكومية، ودرست الهيئة ( 1169) مخالفة مالية وإدارية في سنة 1429ه، كما أن حساب إبراء الذمة تجاوز 160 مليون ريال، كل هذه الأرقام تعطي مؤشرا قويا على تفشي الفساد الذي فضحته بشكل علني كارثة جدة الأخيرة مما يستوجب إعادة النظر في استخدام عقوبة التشهير للحد من كثرة هذه القضية كونها عقوبة رادعة قد تفوق السجن والغرامة. (عكاظ) فتحت ملف القضية مع نخبة من العلماء والفقهاء والقانونيين والمختصين، وتساءلت عن إمكانية التشهير بالمفسدين في كارثة جدة كجزء من العقوبة وضوابط ذلك وأصل هذه العقوبه في الفقه الإسلامي وفي القضاء السعودي، وانعكاس ذلك على انحسار الفساد والتنمية والاقتصاد، إضافة لكيفية تعامل وسائل الإعلام والمجتمع مع قضايا التشهير وحق المشهر بهم دون دليل في مقاضاة الأطراف الأخرى، وأهمية تعميم هذه العقوبة على كل قضايا الفساد في المجتمع في سياق التحقيق التالي: يرجع مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ قضية التشهير بالمتورطين في قضايا الفساد لولي الأمر، مفضلا عدم التشهير بأي اسم تم القبض عليه أو استدعي للتحقيق في الوقت الحالي، خصوصا في حالة عدم وجود إثباتات وقرائن عليهم، داعيا الناس إلى عدم الخوض في الحديث عن الكارثة، حتى ما تخرج به لجنة تقصي الحقائق يقودها الأمير خالد الفيصل، مطالبا ب «عدم الاعتماد على الأقوال الجانبية والشائعات العابرة التي يطلقها البعض»، امتثالا لقول المولى «ولا تقف ما ليس لك به علم». مرجعية شرعية لكن المستشار في الديوان الملكي وعضو هيئة كبار العلماء الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع طالب بضرورة التشهير بالمفسدين خصوصا المتورطين في كارثة جدة مرجعا ذلك إلى القاضي الذي يقدر العقوبة الملائمة للجرم الذي ارتكبه مبينا أن الجلد والحبس والغرامة عقوبات توزاي عقوبة التشهير، وبين المنيع أن المتورطين في قضايا الفساد يعتبرون مجرمين يجب أن ينالوا العقوبة الرادعة والزاجرة لهم ولغيرهم. وأكد أن أي تفريط في المسؤولية التي تناط بالشخص تعتبر جريمة في حق ولي الأمر والمجتمع وخيانة وعدوانا وإهمالا تقتضي العقوبة والتشهير خصوصا إذا ترتب عليها خسائر مادية ومعنوية. وشدد المنيع على أن عقوبة مرتكبي كارثة جدة يجب ألا تتوقف عند رد الأموال بل يجب أن تترتب عليها عقوبة أكبر نظرا للخسارة الكبيرة في الأموال والأرواح ومن ضمنها التشهير. وحول إمكانية دراسة هيئة كبار العلماء لكارثة جدة مع التشهير بالمتورطين فيها قال المنيع : «هيئة كبار العلماء مجلس شرعي استشاري لولي الأمر ولو أرسل لنا خادم الحرمين الشريفين للنظر في هذه الكارثة وإبداء الرأي فنحن مستعدون لذلك». نظرة قضائية وأشار رئيس المحكمة الجزئية في الرياض الدكتور صالح آل الشيخ إلى أن الأصل في الأمر من الناحية القضائية عدم التشهير بأحد، مؤكدا أنه لايجوز لأحد أن يتكلم في قضايا المتورطين في الفساد إلا بحكم القاضي، ولفت إلى أن اتهام شخص دون وجود دليل يعتبر خطأ يحاسب عليه القانون ويجيز للمتضرر المقاضاة، موضحا أنه إذا ثبتت الإدانة فإنه يمكن التشهير بالشخص دون تجريح شريطة أن يكون فساده يتسوجب العقوبة كل ذلك بحكم قضائي لأنه لا تشهير بدون حكم قضائي بذلك. وذكر آل الشيخ أن التشهير يدخل ضمن باب الأحكام التعزيرية التي يحكم بها بغرض الاتعاظ خاصة إذا كان في الجرم بشاعة وفداحة، موضحا أن التشهير يدخل ضمن صلاحيات القاضي. ورأى آل الشيخ أن التشهير يكون في بعض الأحيان أكثر إيلاما للمخطئ أو المفسد من السجن والجلد والغرامة خصوصا أننا في مجتمع يخشى على اسمه وسمعته، وأكد أن تعميم عقوبة التشهير على كل أشكال جرائم الفساد المالي والإداري سيسهم في انحساره من المجتمع ومؤسساته بشكل كبير. تقدير القاضي من جانبه بين قاضي محكمة التمييز في الرياض الدكتور إبراهيم الخضيري أن التشهير لون من العقوبة الشرعية المؤصلة (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) مؤكدا أن التشهير بالجاني أصل شرعي ثابت في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، واستدرك :«لكن إيقاع التشهير متى وأين وما مقداره، فمرده ثبوت الجريمة ونوعيتها وتقدير القاضي فهو ينظر لمآلات الجريمة والعقوبة الملائمة لها ويوزان في ذلك». وأوضح القاضي في ديوان المظالم في المنطقة الشرقية الشيخ أحمد آل عبد القادر أن الانسياق خلف مطالب وسائل الإعلام والمجتمع بالتشهير غير معتمد في الشرع والقضاء معللا ذلك بغلبة التعاطي العاطفي والإعلامي مع مثل هذه القضايا الحساسة. وبين أن الأصل في حالات الفساد براءة المتهم حتى تثبت إدانته مفيدا أنه في مثل هذه الحالة لاينبغي التشهير بالشخص مهما كانت الظروف خصوصا أن القضاء يقوم على السرية وصيانة الأنفس والأعراض. وأفاد آل عبد القادر أنه إذا ثبت على الشخص الجرم المنسوب إليه بعد تحويله من هيئة الرقابة والتحقيق وغيرها فإن التشهير يبقى جزءا من العقوبة، موضحا أنه ليس كل جريمة فساد تستحق التشهير وأنه يفضل أن تبقى الأسماء طي الكتمان حتى صدور الرأي النهائي من المحكمة. وأفصح آل عبد القادر على أن نظام المرافعات ينص على علانية الجلسة مالم ير القاضي سريتها، مشيرا إلى أنها سلطة تقديرية، والمصلحة فيها ألا تتدخل وسائل الإعلام حتى ينطق بالحكم النهائي ويثبت عليه تهمة الفاسد ويعاقب بالتشهير، وطالب آل عبد القادر بضرورة العقلانية في التعاطي مع قضايا الفساد وعدم الاستعجال بالمطالبة بالتشهير دون امتلاك الأدلة المدينة للشخص والتي يكون فيها الحكم النهائي للقاضي بحسب المصلحة العليا. رأي الشورى وأبلغ رئيس لجنة الشؤون الإسلامية والقضائية وحقوق الإنسان في مجلس الشورى الشيخ عازب آل مسبل أنه لم تطرح قضية التشهير بالمفسدين في المجلس عند مناقشة تقرير كارثة جدة، وقال: «لا أذكر أن شخصا طالب بهذا الأمر ولكن تم التأكيد على ضرورة الإسراع بإنشاء هيئة النزاهة ومكافحة الفساد». وبين أن التشهير بمن تثبت إدانتهم في كارثة جدة أمر يعود لما ترفعه لجنة التحقيق لمقام خادم الحرمين الشريفين. وبين آل مسبل أن إقرار عقوبة التشهير بالمفسدين بات ضرورة ملحة في المجتمع خصوصا في ظل كثرة قضايا الفساد والتي تعتبر عقوبة رادعة وزاجرة للكثيرين ممن يخافون على أسمهم وسمعتهم، مشددا على أن الإهمال في معالجة قضايا الفساد يجعل هذه المآسي تتكرر.. مؤكدا أن التشهير يعتبر سلاحا مهما في محاربة الفساد والمفسدين وهو يتلاءم مع خطوات خادم الحرمين الشريفين. الحكم بالتشهير ورفض المحامي خالد أبو راشد التشهير بأي شخص كان إلا بعد صدور قرار يدينه ويحكم عليه بالتشهير كجزء من العقوبة، مبينا أنه حتى ولو صدر حكم قضائي على المفسد لم يتضمن التشهير به فإنه لايجوز لأحد التشهير به حتى وإن ثبتت الإدانة، مشددا على ضرورة وجود التشهير كجزء من العقوبة لتنفيذها، موضحا أنه في حال التشهير بأي إنسان حتى ولو كان فاسدا دون صدور حكم بالتشهير فإنه يحق له أن يقاضي الجهة التي شهرت به سواء كانت وسيلة إعلام أوغيرها، وأرجع أبو راشد إقرار التشهير بالمفسدين إلى القضاء ولجان التحقيق وهي التي تنزل العقوبة الملائمة للجرم فإن رأت التشهير فإنها عقوبة مستحقة لكل معتد على المال العام. لكن الباحث القانوني والاقتصادي الدكتور محمد الشمري خالف رأي سابقه حينما بين أنه يجوز لوسائل الإعلام تغطية أية محاكمة إعلاميا تطبيقا لمبدأ العلانية في التقاضي ونشر مايدور في المحكمة بما في ذلك أسماء المتهمين الخاضعين للمحكمة والمحامين وحجج الدفاع وحجج الادعاء العام كما حدث في قضية ( المجاهر في المعصية) . حكم جائز وقال : «فيما يتعلق بمسألة التشهير بالمتسببين في الإهمال أو التقصير الذي تسبب في كارثة جدة فلا يجوز إلا بعد صدور حكم قضائي بالإدانة، وأن يتضمن الحكم التشهير بالمحكوم عليهم»، واستدرك الشمري : «لكن قبل ذلك يجوز وفي حال صدور الحكم بإدانة أي شخص في القضية، فإن النشر عن ذلك هو بمثابة ( تشهير نظامي) لا يحتاج إلى إجراءات أخرى». وأوضح الشمري أن التشهير عقوبة معنوية منصوص عليها في الكثير من الأنظمة السعودية مثل نظام مكافحة التزوير، ونظام مكافحة الغش التجاري، وغيرها من الأنظمة، مبينا أن تطبيقها يكون واجبا بعد ثبوت الإدانة في بعض الأنظمة مثل نظام مكافحة الغش التجاري لغرض تحذير المستهلكين، ويكون جوازيا في أنظمة أخرى خاضعا لتقدير سلطة القاضي، ودعا الشمري إلى ضرورة الاعتماد على التشهير ضمن الجزاءات الرادعة بحق المتورطين في قضايا الفساد لانعكاسها إيجابيا على المناخ الاستثماري والاقتصادي للبلد وعدم عرقلة المشاريع التنموية بسبب كثرة قضايا الفساد. معالجات إعلامية وطالب مدير مركز المستقبل الإعلامي الدكتور أيمن حبيب وسائل الإعلام بتوخي الدقة والحذر عند الحديث في قضايا فساد أو تشهير بشكل عام، مشددا على أن التشهير في حالة الاشتباه يعتبر جريمة ينبغي معاقبتها، وقال : «لا ينبغي لأجهزة الإعلام أن تتورط بالإساءة لسمعة ومكانة أناس لم يثبت اتهامهم، ومجرد إثارة الظنون لايعطي الحق لا للمسؤول ولا لأجهزة الإعلام أن تتسبب في خراب بيوت الناس فالأعراض مصانة بما أمر به الله ورسوله ولايستباح عرض المسلم إلا لأسباب جوهرية دامغة وحجج مثبتة أكيدة بعد صدور الحكم الشرعي». وأشار حبيب إلى أن المسألة لاتخص الإعلاميين وحدهم وإنما تخص جميع شرائح المجتمع. وأرجع حبيب تورط بعض الإعلاميين والكتاب والمثقفين في التشهير دون وجود أدلة دامغة وحكم قضائي يدعمه إلى اختلالات تربوية وأخلاقية يتورط فيها الكثيرون دون أن يراعوا الحقيقة في ذكر فلان وفلان بما لايثبته ضده، موضحا أن بعضهم يمارس دوره في معرفة الحقائق وتقصي أسباب الكوارث بجعل الجميع في دائرة الإدانة والاتهام دون دليل أو حكم. ووضع حبيب روشتة العلاج بقوله : «نحن بحاجة لإعادة تكريس قيم تربوية وأخلاقية لدى جميع فئات المجتمع بما فيهم الإعلاميون الذين هم في فوهة الدفع لأنهم ناقلون لهذه الشائعات والاتهامات والتخرصات لأن بعضهم يشهر دون وجود الدليل»، مطالبا الجهات الرسمية بأخذ الكثير من الحيطة والحذر عند استدعاء أي شخص للتحقيق أو تقصي الحقائق. ودعا حبيب وسائل الإعلام في حالة ثبوت الاتهام فإنه ينبغي عليهم بالدرجة الأولى إظهار الحقائق دون مبالغات أو انتقاص.