مازالت جدة تبكي..جسدها الشرقي يواصل نزفه. أسئلة تبحث عن إجابات. عيون تبحث وأخرى تبكي. رائحة الموت تفوح من كل مكان. لا وجود للأطفال والنساء إلا ما ندر. رجال يستجمعون هممهم وعزائمهم. يرسلون دعوات إلى السماء وأمنيات أن يجدوا من فتشوا في التراب والصخر والألم عنه. مفقودين لا يعرف إن أخذهم الماء وهل سيعودون أم لا. تجولت «عكاظ» في قويزة أمس وقلبت صفحات المكان الذي تغير كل ما فيه، فلم يتبق إلا ذكريات وعلامات استفهام وتعجب تحوم فوق رأس كل من يقف على الوضع هناك. حفرة الجثث .. لم ينبشها أحد يصرخ عبد الله المطيري في وجه من يأتي باحثا عن الغوث لأسر شاهدها تصارع الموت وسط أمواج السيول، يقفز من مكان إلى آخر ليحكي قصة النهار الذي كان أشبه بفيلم سينمائي مر بسرعة وخوف ورعب. يتحدث المطيري الذي نجا وابنه بعد أن تعلقا بأشجار مجاورة لمنزل قريبه : «كان السيل يجري بقوة وصهاريج نقل الماء يحملها وكأنها في وزن الريشة، مرت سيارات محملة بأسر يصرخون ويطلبون النجدة، ولم يكن باستطاعتنا إنقاذهم». يركض عبد الله إلى حفرة عظيمة كونها السيل بعد أن ضرب الأرض بقوته، يجزم أنها مملوءة بالجثث : «سيارتان من نوع فورد وتويوتا وثالثة كامري تقل أسرا متأكد أن داخلها أسرا أما السيارات الأخرى لم أشاهد من بداخلها». البحيرة التي تكونت في الحفرة لا يبدو على سطحها آثار وجود سيارات أو بشر، إلا أن قاعها شديد السواد وفي أطرافها تميل إلى الخضرة. وفي طريق العودة يقف طلال الصبحي يتفقد سيارته التي وجدها مائلة على شفى الوادي تكاد تسقط : «لم نتوقع أن خروجنا للتنزه سيكون نهايته خوف وهرب إلى سطح البيت، إذ جمعت أسرتي وبقينا في السطح نراقب الوضع السيل جرف السيارات والمباني نسمع أصواتا من أماكن مختلفة وندعو أن يلطف بنا الله، وعندما أتت طائرة الدفاع المدني لوحت ولكن لم يشاهدونا». الظاهري كسر النافذة لينقذ 17 أسرة يتوقف من يمر على طرف شارع جاك في قويزة عند بناية حديثة، بعد أن جرد السيل سيقانها، وبدت عارية من الاسمنت، وكشف الاسفلت البسكوتي ماظهر وما بطن داخل الصندوق الاسمنتي الضخم. تتدلى من أسفل البناية بقايا أثاث في منظر تندر مشاهدته، يتفقد مالك الأثاث خالد الظاهري ما تبقى من منزله الذي قضى فيه أياما جميلة مع زوجته وأطفاله الأربعة : «عشنا لحظات رهيبة من الخوف والقلق، رحمنا الله، ومازلنا نتألم لفقدان شقيقة زوجتي التي رحلت وزوجها في السيارة». يكمل خالد الذي قال جيرانه إنه مجنون بعد أن كسر نافذة جاره ليدخل الأطفال والنساء مدرسة مجاورة للبناية : «عندما حفر السيل أساس البناية خفت على الأسر وفكرت في الانتقال إلى المدرسة المجاورة وعلى الفور اقترحت كسر النافذة المطلة على المدرسة من شقة جاري، في البداية رفض الجيران ومع هدير المياه وافقوا وسريعا نقلنا 17 أسرة كانت تقطن البناية». يتفقد الظاهري غرفة أطفاله والمجلس الذي كان يلتقي فيه أقاربه وأصدقاءه متأملا الأيام الجميلة التي كان يقضيها بعيدا عن أية تهديدات تقض مضجعه». شارع جاك..من هدير الخرسانة إلى رائحة الدم عبد الله نمنكاني في فرجينيا شرق الولاياتالمتحدةالأمريكية، ومحمد العمري في سيول عاصمة كوريا الجنوبية، يدرس الأول الهندسة والثاني تقنية المعلومات لا يعرفان بعضهما، واجتمعا في هم البحث عن صور ومقاطع عن كارثة جدة. امتلأ موقع تحميل مقاطع الفيديو «يوتيوب»، بمقاطع للكارثة وهي حية، وخطف شارع جاك الشهرة الأكبر بالصور الأقوى والأغرب. يدخل عبد الله ومحمد المرتبطان بأقارب في جدة يوميا للبحث عن الجديد يقلل خوفهما من الكارثة التي أتت على الأخضر واليابس شرق جدة. ضربت شهرة شارع جاك الشريان النابض لأحياء قويزة في كل الاتجاهات بعد أن أصبحت وسائل الإعلام جهازا محمولا في جيوب الشابات والشبان. يؤكد أهل الحي أن اسم الشارع أرتبط بشركة جاك المتخصصة في تكسير الحجارة لتكوين الخرسانة، وأصبح بعد التوسع العمراني القلب النابض للمنطقة والرابط بين الأحياء القديمة والجديدة. يشق شارع جاك الذي يبدأ من تخوم طريق الحرمين قلب أحياء قويزة، وأول علامات الاستقبال في الشارع دلافين من النيكل تلمع مع شروق الشمس وغروبها، تلتف حول نفسها في منظر جميل يعبر من يشاهده إلى جامعة الملك عبد العزيز في الطرف الآخر. يربط شارع جاك أحياء: المساعد، الصواعد، والعبيد بوادي قوز الذي يصب في قلب المنطقة، وخلال الأعوام العشرة الأخيرة اشتهرت أرصفة الشارع بأنها تجمع لكل السلع، فأصبح قبلة أهل الحي من قرص الخبز إلى قماش الثياب، وشكل الزحام علامة فارقة لا يتركها، وتتأزم في شهر رمضان. الصورة الجديدة للشارع المطمورة أجزاء منه بالطين هي الدماء والجثث فخلال الأيام الماضية انتشلت منه أجساد جرفها السيل مسافات الطويلة، وخاتمة الشارع اليوم جنود الجيش يفتشون من يخرج للتأكد من ممتلكات السكان ولحفظ سلامتهم. «جدة غير».. بيوتها تنهار للأعلى في كل مدن الدنيا.. عندما يسقط مطر كارثي، أو يجتاح إعصار مدمر.. فإنه أول ما يقتلع.. يقتلع الأسقف، ويبدأ الدمار من الأعلى ونزولا.. إلا مدينة جدة.. لم يخطئ من قال «جدة غير».. فبيوتها عندما تنهار تحت وطأة المطر.. فإنها تنهار من الأسفل وصعودا.. ينخرها السيل عن أساساتها.. والبقية تتبع..