ليل قويزة لايشبه ليل أحياء جدة الأخرى، وكأنه بظلامه الحالك أعتم على كل مشاهد الخراب والدمار الذي طال ماتبقى من ممتلكات السكان الملطخة بالطين والمعجونة بالمياه من سيارات وأثاث وبضائع محال، أفرغ الحي من أهله لكن كثيرين يعودون ليلاً إما لتنظيف منازلهم، أو حراستها بعد أن كثرت جرائم السرقة في اليومين التاليين من كارثة السيول. وعلى رغم أن الأجهزة الأمنية تطأ أرض الحي ولا تبرحه نهاراً وليلاً تمشط كل شوارعه وأرجاءه إلا أن الخوف مازال يتملك سكاناً فضلوا قضاء مناوبات ليلية يتقاسمها أهل المنزل كل مساء. شارع «جاك» وهو أشهر شارع في جدة اليوم بعد كارثة السيول سمي باسم شركة «جاك» المتخصصة في تكسير الحجارة وتحويلها إلى خراسانة أصبح نقطة أمنية تعبر من خلالها السيارات داخل وخارج الحي بعد إجراءات تفتيش منعاً لنفاذ المشبهوين والسارقين، وهو اليوم ينقل جثث الموتى في مواكب لاتقف متبوعةً بدموع ذوي القربى ودعائهم. يمر الموت من هذا الشارع، ويمر معه باحثون عن مفقودين تعبت خطواتهم في تعقب أثرهم، وخلف «قويزة» وادٍ له مع المفجوعين والحزانى ألف قصة، يقفون على شعابه من بزوغ الفجر وحتى غروب الشمس، يلوح سؤال لمن شاهدهم، أي خيال رسم هذا المصير؟. محمد السبيعي يقف بجوار شقة جلب لها الأثاث قبل كارثة السيول بأيام قليلة وكان وقتها مستعداً لتجهيز شقته للسكنى، وهو اليوم ينظر إلى ماتبقى من أثاث أصبح رديئاً بفعل طوفان من السيل أغرق بشراً ودمر بيوتاً على رؤوس أصحابها. أنقذ محمد السبيعي وبعض جيرانه سيدة وأبناءها استغاثوا بالناس يوم كارثة «الأربعاء الأسود»، كانوا داخل شقة بالطابق الأرضي، وروى لنا كيف أن منسوب المياه يومها تجاوز طول المتر والنصف، وأنهم لم يجدوا بداً حين كان باب الشقة مقفولاً من الخارج من كسر منفذ التكييف وإنقاذ العائلة من خلاله. يحكي محمد أيضاً أن سيارة أحد جيرانه سرقت أمام عينيه في وقت كان مشغولاً فيه بمعاينة أضرار البناية التي يسكنها، وأن سارقين آخرين استغلوا انشغال الناس في مصائبهم لينشطوا في السلب والنهب. خلال تجولنا في الليل كان عبدالله الخثعمي يجوب شوارع حي قويزة أمامنا يبحث عن مهندسي الكهرباء إذ إنه جلب عائلته وعاد لبيته على رغم انقطاع التيار، ولا يخفي في الوقت ذاته خوفه على أهله بسبب كثرة السرقات و «قاطعي الطرق» بحسب قوله. وسط حي تملؤه روائح الجثث ليس للساهرين هناك سوى حكايات الموت تختزلها أحاديثهم، «محمد» مقيم مصري بالحي شاهد العم ساعد المالكي وهو يموت غرقاً في جامع التوفيق رغم استغاثات الناس وتلويحهم بالرايات البيضاء للطائرات المروحية فوق سماء «قويزة».