وداعاً ناصر بن علي بن عيضة الناصري الحارثي، أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة أم القرى. وداعاً أبثه من جوار البيت العتيق يحفك في هذه الرحلة الأخيرة من جهة الإقلاع والمغادرة (الدنيا) إلى فضاء الهبوط في كنف غفور رحيم.. فك الارتباط بين الجسد والروح نهاية الخلق المنتظرة بتوقيت إلهي قدره الله الذي قدر كل شيء خلقه. كنت أتوقع تأبيناً منك، ومن أمثالك من الرجال الأوفياء من ذوي الصحبة الطيبة في حياتي فأنا أكبرك بما يقرب من عقدين من الزمان. وكم من مرة توهم غير واحد أنك ابني في الرياض وفي مراقبة الطريق بين مكةوجدة، وغير ذلك عندما نجتمع مع غير واحد، وكنت سعيداً بهذه النكتة المجتمعية التي كانت تنظر إلى الأبوة والبنوة دون النظر إلى أن الصحبة كانت بين أستاذين، لكن أمر الحياة والموت لا يقاسان بمثل هذا المقياس الزمني بين الناس. هذا ما نؤمن به ونعتقده، ونعد العدة له مصبحين وممسين، وهذه ظعائن الراحلين أمام المشاهدة اليومية بخلطتها العجيبة، وأشتاتها الغريبة، تجمع بين المتضادات والمؤتلفات فيها الذكر والأنثى، والكبير والصغير. وداعاً ناصر فقد رجع التراب إلى التراب، وبقيت الروح حية روح الحياة عند بارئها، وروح الفعل الحميد عند شهود الحياة. تركت أثراً مفيداً وجميلاً نشكرك عليه. تركت كيفية تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان (معاملة الخلق الحسن)، تركت صورة مشرقة لطالب العلم الجاد الباحث عن الحقيقة العلمية، وتركت علماً ينتفع به، وتركت ذكرى عطرة عند من عرفك عن قرب، وعن بعد. كنت تمني نفسك أن تعيش في ركن قصي من حياة البيئة الهادئة البعيدة عن صخب وضجيج الحضارة الحديثة، وكررت هذه الأمنية غير مرة. ولعل هذه الرحلة الأخيرة قد حققت لك ما كنت ترجوه. يا ناصر، عرفتك منذ التحاقك بالسنة الأولى (فرع جامعة الملك عبد العزيز بمكة) حتى يوم الوداع كنت من أوفى الأوفياء في الحفاظ على حقوق الصحبة تصل بك المجاملة أحياناً إلى تحمل أشياء من أبواب المجاملة لا يتحملها سوى أصحاب النفوس الكبيرة وما ذاك إلا لتحافظ على حبل الوصل موصولا دونما انقطاع، أو ضعف في فتله، وعرف الناس قدرك ومكانتك في حياتك فأبنوك بما أنت أهله، ودعوا لك بالرحمة. يا ناصر، سيحكي أبناؤك لأبنائهم شيئاً من سيرة الجد الحسنة، فربما يولد ناصر جديد يحفظ إرث ناصر الجد. أما أنا فلن أنساك يا ناصر، فلي معك وقفات أخوية طويلة لا يكفي هذا التأبين الموجز في تناولها شرحاً وتفصيلا، فقد هممت في تزوير هذا التأبين أن أكتب عن واحد من مؤلفاتك مادة ومنهجاً ليكون أنموذجاً صالحاً لإنتاجك العلمي فغلبت العاطفة على العقل والحالة الراهنة على الحالات الماضية وهذا ما كان. «اللهم إن لك، ولخلقك حقوقاً كثيرة على ناصر.. اللهم ما كان لك منها فاغفرها له، وما كان لخلقك فتحملها عنه، يا رب العالمين، إنك أنت العزيز الحكيم». د. محمد بن مريسي الحارثي