لا زالوا يتذكرون أيامها ويحنون إليها.. ربما تذكرهم بزمن الطفولة والصبا، وماض كان نصيبهم فيه التعب، إلا أنه تعب يدخل دائرة الحنين، ليس مهما أين كانوا في الماضي وأينما يكونون الآن، المهم أنهم كانوا سابقا في منبع علم أو يجاورون ويعملون في هذا المنبع. لكن الثابت أنه كان هناك معلمون ومديرون لا زالت الذاكرة تعج باسمائهم، وزملاء من الطلاب قادتهم الأيام إلى درجات وظيفية أو مواقع لامعة في المجتمع.. بعد تجاوز مرحلة التعليم ومرور الزمن وتبدل الأحوال، قال هؤلاء الكثير عن الدراسة والمدرسة.. حارس ومربٍ فارع أحمد عبد الله نعمان (81 عاما) تجاوز نصف قرن من العمل حارسا في مدارس الفلاح في جدة يقول والحنين يسبق كلماته: أكثر من خمسين عاما لم أبارح هذا المكان الذي أعتبره بيتي الأول والأخير. هنا عاصرت العديد من الطلاب الذين تخرجوا وتقلدوا فيما بعد مناصب قيادية كبيرة ولازلت أتذكرهم صغارا وكبارا، ولعلي أذكر من مديري مدرسة الفلاح الشيخ سالم أشرم، الشيخ محمد مطر، الشيخ عبد الوهاب نشار، الشيخ علي باعشن، وحاليا حسين البقمي. هؤلاء بعض مديري مدرسة الفلاح الذين عاصرتهم والذين عايشت معهم تربية أجيال من الطلاب، حيث كانت الدراسة في المدرسة جادة تعد الشباب لتحمل المسئولية، كما أن الدراسة فيها كانت ست حصص لمدة ستة أيام في الأسبوع والجمعة إجازة فقط، وزمن الحصة 55 دقيقة، ويتواجد الطلاب في المدرسة حتى أداء صلاة الظهر ثم ينصرفون إلى منازلهم لتناول الغداء ثم يعودون حيث يدرسون الحصة الخامسة والسادسة، ويبقون حتى صلاة العصر لينصرفوا بعد انتهاء اليوم المدرسي، وذلك قبل أن تصبح مدرسة الفلاح مثل بقية المدارس الأخرى من حيث المواعيد. ويستطرد نعمان: مهمتي في الأصل حراسة بوابة المدرسة ومنع الطلاب من الخروج منها ولهذا يعرفني كافة الطلاب لأنني أظل من الصباح وحتى انصرافهم بجوار البوابة. ويضيف: كان طلاب الفلاح يتميزون بحرصهم الشديد على الدراسة، وكنت أشاهدهم يذاكرون دروسهم في الممرات، وحتى أثناء سيرهم للدخول للمدرسة.. كان الكتاب في أياديهم ونادرا ما أشاهد طالبا لا يحمل في وجهه علامات هم الدراسة والشعور بالمسؤولية. والدراسة منذ عرفتها في الفلاح كانت مجانية وكان يدرس فيها معلمون أكفاء في كافة مجالات الحياة. الفلكة للضبط محمد صالح المرزوق يقول: أنا ممن درسوا في مدارس الفلاح قبل أربعين عاما تقريبا، والدراسة فيها تتسم بالشدة تصل لحد الضرب ب (الفلكة) في زماننا كأسلوب للتقويم والعلاج، ولعلي أذكر من المديرين علي حسن السكري، وكانت الأنشطة أكثر ما يميز المدارس، فمن خلال النشاط الرياضي مثلا تخرج أبناء الكيال وأبناء أبو داود وغيرهم من لاعبي كرة القدم، كذلك هناك نشاط ثقافي في المسرح والتمثيل وكانت المدرسة تشارك بهذه الأنشطة في مسابقات على مستوى جدة. ويتذكر محمد من المدراس القديمة أيضا في جدة المدرسة السعودية والتي يقول عنها: من أقدم المدراس وكانت الدراسة فيها تماثل مدارس الفلاح وكانت تقع في حارة المظلوم خلف عمائر باخشب حاليا، وهي مدرسة خرجت العديد من الطلاب المميزين. احترام التعليمات محمد حزام سعيد الشميري (64 عاما) الذي يعمل منذ زمن في الفلاح يقول: أهم ما يميز المدرسة هدوء الطلاب والتزامهم بالنظام، واحترامهم لمعلميهم وحتى عمالة المدرسة عموما، ففي الفسحة والانصراف تشاهد الانضباط واضحا إلى أقصى درجة، فطيلة الفترة التي قاربت الأربعين عاما، لا أحتاج لتنظيف ساحة المدرسة من شدة حرص الطلاب على النظافة كمثال فقط. مدرسة الأوائل ويقول المشرف على مدارس الفلاح أحمد حميد العبادي: تأسست المدرسة عام 1323 ه في جدة، وبعد هذا التاريخ بسبعة أعوام تأسست الفلاح في مكةالمكرمة، وتعاقب عليها العديد من المديرين أذكر منهم: محمد حامد الحسيني 1324ه، إبراهيم ضياء 1326ه ، حسن عبد القادر مطر 1330ه، عمر بكري حفني 1360ه، عبد الوهاب نشار 1361 ه ، صالح الخزامي 1379ه، وعلي حسن السكري 1392ه. ومن المدرسين القدامى محمد حامد المرزوقي، محمد يوسف العوضي، محمد حسن عواد، محمود عارف، أنعم ناصر اليمني، حسن أبو الحمايل، أحمد صالح قنديل، وعباس حلواني والعديد غيرهم. ويضيف العبادي: تتميز الفلاح بجودة الدراسة بها وهي تخضع لإشراف وزارة التربية والتعليم وتجد دعما من الوزارة، ولهذا لمدارس الفلاح حضور مميز وغالبا ما تحصل على مراكز مرموقة على مستوى مدينة جدة، وكثير من الطلبة الأوائل في المراحل الدراسية الثلاث من مدارس الفلاح. المناهج الدراسية من جانبه، يعدد حسين صنيدح البقمي أبرز أسماء الطلاب الذين تخرجوا من مدارس الفلاح فيقول: من بينهم على سبيل المثال لا الحصر إسماعيل أبو داود 1350ه، أحمد محمد باعشن 1338ه، إبراهيم الحسون 1352ه، أحمد صلاح جمجوم 1359ه، وعمر عبد ربع 1348 ه. أما عن نظام الاختبارات، فيشير البقمي إلى أنه يعقد في نهاية العام اختبار عمومي لجميع الأعوام الدراسية ويبدأ في الثالث من ذي القعدة ويستمر لعشرة أيام، وينتهي في 13 من ذي القعدة، ويقام بعده احتفال سنوي. أما عن الدراسة في الفلاح عام 1338ه كمثال، فقد كانت تتكون من ثمانية أعوام هي: السنة التحضيرية، ثم أولى ابتدائي، فسنة ثانية، وثالثة، وتؤهل الطالب للحصول على الشهادة الابتدائية، ثم أولى ثانوي، فثانية ثانوي، وثالثة ثانوي، ويمنح بعدها الطالب شهادة ثانوية تعادل الكفاءة المتوسطة، ثم هناك سنة أولى عالية. والطلبة الذين سيتم تخرجهم بعد هذه المراحل يتم تدريسهم تحت القبة وهي التي في أعلى المبنى القديم للمدارس، ولهذا لم يكن بناء القبة عبثا، وإنما بهدف تدريس المتخرجين تحتها. أما عن المواد، يقول البقمي: سأضرب مثالا واحدا لتوزيع المنهج الدراسي لطلاب السنة الثالثة الابتدائي وهي ما تعادل الشهادة الابتدائية، فكان المنهج يتضمن القرآن الكريم حيث يحفظ الطالب ثلاثة أجزاء، ثم التوحيد والفقه ويحفظ الطالب الرسالة الجامعة حفظا ومتنا، ثم الحديث من كتاب الزكاة والصوم إلى كتاب النكاح والترغيب والترهيب ثم منهج التجويد والسيرة والنحو والصرف والحساب ثم الخط وتحديدا النسخ ثم الإنشاء والإملاء، وهناك منهج كان يدرس باسم (مسك الدفاتر) ثم التاريخ. هذا نموذج للدراسة في المراحل الأولى من نشأة المدرسة. أما منهج السنة التي تسمى (الثالثة عالية) وهي تعادل الصف الثالث الثانوي، فكان يدرس الطالب فيها المناهج الدراسية التي تتضمن: التفسير وأصوله، الحديث وأصوله، أصول الفقه ثم الفقه، النحو، المنطق، البلاغة، الجبر، الهندسة، الرسم، مسك الدفاتر، علم الأشياء والحكمة، وعلم العروض والمناظرة. ويعود للحديث عن منهج الصف الأول تحضيري قائلا: كان الطالب يدرس المواد التي تبدأ بالتمرين على الهجاء ثم تلاوة القرآن من جزء عم وتبارك ثم حفظ القرآن من ألهاكم ثم التشهد والقنوت، ثم قراءة القرآن ثم يتعلم الطالب الخط ويستمر الوضع حتى الصف الرابع تحضيري. متعهد الغياب والحضور ويحكي بلال سعيد خلة (82 عاما) الذي أمضى أربعين عاما في رحاب الفلاح قصة العديد من السجلات القديمة، التي تعود في تاريخها إلى عهد مؤسس مدارس الفلاح الشيخ محمد على زينل قائلا: دفتر حضور وغياب الطلاب حيث يتم تسجيل غياب الطلاب وحضورهم، ففي حالة الغياب كان هناك من يحمل هذا الدفتر والتوجه به إلى ولي أمر الطالب المتغيب من أجل أخذ إفادته عن سبب الغياب وتسجيل العذر، وكانت المدرسة تشدد في إجراءات الغياب وتحاول بكافة أنظمتها الحد منه لدرجة أنها كانت توجه رسالة لوم وعتاب للأب الذي يتكرر غياب ابنه. وهذا السجل كان ضمن مسؤولية الموظف المسؤول عن الغياب والحضور أي ما يطلق عليه الآن المراقب، وكان للمتابعة اليومية دور واضح في انضباط الطلاب وعدم تخلفهم عن الدراسة ولهذا كانت نسبة الغياب محدودة؛ نظرا لوجود من يتوجه لبيت الطالب للبحث في أسباب ذلك الغياب.