كان نجاح مجلة (المختلف) محرضا حقيقيا، وفي حي السفارات في الرياض كان الشاعر المرحوم (طلال الرشيد) يؤسس لمكتب مجلة (فواصل) التي طبعت في لبنان، ونجحت المجلة في المنافسة، وتفوقت توزيعيا على ما أظن بسرعة فائقة، وكان ذلك كافيا لفتح صنبور المجلات الشعبية في المنطقة. قبل ذلك كله، كان حلم الشاعر أن يكون شاعرا كونيا بغض النظر عن اللغة أو اللهجة التي يكتب بها، وكان الفنان الكبير المرحوم (صالح العزاز) يدعو الشعراء للكتابة عن الأشجار والغيم والطبيعة، لذلك ربما أكرمه الله يوم وفاته بسقوط أمطار غزيرة في الرياض وعلى قبره، كانت تحية الطبيعة ووداعيتها للمصور والصحافي الكبير ولا أعتذر عن هذا الاستطراد الدامع، لكنني أعود فأقول: كان حلم الشاعر أن يكون كونيا، فإن قل الحلم أصبح إنسانيا يكتب عن الإنسان في كل مكان وكل زمان، فإن قل الحلم أصبح قوميا، فإن قل أصبح وطنيا، ولم يكن أحد يتوقع ما هو أقل، لكن الأحلام شحت بريبة طاحنة، وأصبح الشاعر قبليا وربما أصبح (فخذيا) نسبة إلى (فخذ) القبيلة التي ينتمي إليها. في فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي كانت القصيدة الشعبية قد تقدمت خطوات عديدة إلى الأمام، وصار مشروع القصيدة الحديثة أو قصيدة الشعر الحر مشروعا مجازا ومباحا ومعترفا به، وكان لأشعار بدر بن عبدالمحسن ووضعه الاجتماعي المرموق دور كبير في الذود عن الحلم بقصيدة أخرى أشد تكثيفا وأعمق إنسانية وأوسع خيالا وحرية، ولكن الحركة الثقافية عموما كانت قد طعنت من الخلف بهجوم شديد على شعراء الحداثة الذين يكتبون باللغة العربية الفصحى. وبتراجع مدهم، كان لابد للقصيدة الشعبية الجديدة من التأثر فتراجعت هي الأخرى ودخلت في باب (أكلت يوم أكل الثور الأبيض)، لكن الثور الأبيض كان معدا للأكل سلفا، فقد كان من الصعب فيما يبدو للقصيدة الجديدة الفصحى التقدم أكثر، ليس في ظل هجوم المنابر الدينية الشرس ضدها فحسب، ولكن أيضا لأن الحداثة كانت مشروعا متكاملا، وعلى أقل تقدير فإنه لم يكن بالإمكان كسب شرعية لقصيدة شعر حر في ظل غياب شبه تام للمسرح والسينما، وفي ظل حضور نخبوي قليل للفن التشكيلي، فقد كانت الثقافة البصرية واجبة وبإلحاح للتعايش مع قصيدة، تتعامل مع بياض الصفحة بإيماءات موحية، ويمكن تقطيع عباراتها إلى عدة سطور، ونثر أحرف كلماتها هنا وهناك في أعلى وأسفل ووسط الورقة. كان بالإمكان أفضل مما كان فيما لو لم تتضارب المواقيت، لكن الفضائيات وعوالم الإنترنت وربما الموبايل أيضا كلها جاءت بعد انهيار الأحلام الكبيرة وغياب نظريات الوحدة والتواصل مفارقة عجيبة أن يأتي التقدم متأخرا، فالذي لم يمت من الأحلام الكبيرة كان في طور الاحتضار، ولم ترحم التكنولوجيا ميتا أو مريضا، تركت الجثث في العراء وقدمت للمرضى علاجات شعبية ومسابقات تلفزيونية. وفي ظل غياب مخجل للشهادات الدراسية الكبيرة، وفي ظل فضائيات أهلكت كل شيء فقدمت الفيديو كليب في أسوأ صوره التجارية وتمادت فقدمت أغنيات (النور) و(الكواولة) في قنوات خاصة مستثيرة الغريزة العاجزة عن التفكير مستفيدة من خط الرسائل أسفل الشاشة وغيرها من أسباب، جاء جيل وأكثر غير قادر على قول شيء حقيقي، واحتاج شعراء هذا الجيل إلى جمهور يحضر أمسياته ومهرجاناته، ويدعم مسابقاته الشعرية ب (عانيات) على شكل رسائل جوالات قصيرة. بدأت العملية مثل طرفة، ولم يعرف أحد أن التمساح الصغير الذي وضع في البحيرة للفرجة سوف يكبر بعد قليل ليلتهم الجميع، كان التمساح الصغير عبارة عن مفردات (قبلية) قليلة وضعت في القصيدة الشعبية التي أصبحت (نبطية) خالصة بفعل تراجع قصيدة الشعر الحر للأسباب التي ذكرنا بعضها قبل قليل، وفي البداية بدت هذه (المفردات) مثل الليمون على طبق حساء، أو مثل الشطة على أرز لم يطبخ بعناية وموهبة. وكما كان يمكن لليمون دائما إضفاء نكهة على طبق الحساء مهما كان ماسخا، وكما كان للشطة من أثر في زيادة الشهية للأكل، كان لهذه (المفردات) القبلية القدرة على تقبل القصيدة النبطية الجديدة، وأصبح التصفيق مقترنا بقدرة الشاعر على الإضحاك، لكن سرعان ما أصبح المضحك مبكيا، فقد صار التنافس على الشطة والليمون ومن من الشعراء قادرا على إضفاء أكبر كمية منهما في (طبخته)، وصارت الوجبة الرئيسية هي (الليمون) و(الشطة) مع إضافة قليل من الطعام إلى كل منهما. هل انتهى كل شيء، لا، لا أظن فالحياة لا تقبل التراجع كثيرا، وهي متقدمة دائما، والمأساة التي تعيشها القصيدة الشعبية اليوم في طريقها إلى الانتهاء مهما بدا الركض إلى الوراء متسارعا، ومهما أعلن السيد (جحا) عن حضوره الطاغي وطريقة تفكيره العجيبة في الاستدلال على أذنه من الطريق الأطول، فالقصيدة التي فشلت في أن تكون كونية ثم تراجعت عن إنسانيتها ثم تنازلت عن ووطنيتها بدرجات مخجلة وصارت قبلية ثم هاهي تصير (فخذية)، ستصير عما قليل قصيدة (أسرية)، بعد ذلك يجد الشاعر نفسه مجبرا على الالتقاء بنفسه في قصيدة (ذاتية) خالصة، والشعر أحد أكثر الفنون (ذاتية) في الدنيا، ومن هناك سوف يبدأ العد، هل أحلم؟ أم أفكر بنفس طريقة السيد (جحا) الغبية؟ لا بأس، يبدو أنه لا مفر من الحلم، ومن الواضح أن الحلم اليوم يحتاج إلى كمية من الغباء.