بمجرد بزوغ فجر اليقظة الإسلامية في العالم العربي والإسلامي في العقود الأخيرة، تعالت ردود الأفعال في مراكز الأبحاث والدراسات، ودوائر صنع القرار، وتراوحت ردود الأفعال هذه بين الترحيب والاستبشار، والحذر والتخوف، والمواجهة والقهر، وتفجير الصراعات الدموية، التي تخطت وحشيتها الكثير من سوابق العنف في التاريخ! على جانب آخر، طفت على الساحة الفكرية حزمة من الأسئلة مثل: هل يحافظ الإسلام حتى يومنا هذا على دعوته الشاملة؟ وهل يمكن لدولة عصرية اعتماد الإسلام نظام حكم؟ وهل النظام الإسلامي للحكم مرحلة حتمية على الشعوب العربية أن تمر بها في معرض تطورها؟ ولم تقف هذه الأسئلة عند يقظة المسلمين، وصعود تيارات الحركات الإسلامية.. وإنما امتد التساؤل أيضاً إلى الإسلام وإلى أبعاده السياسية والتشريعية والحضارية على وجه الخصوص، ومدى امتلاكه للبديل الحضاري القادر على تحريك أمة؟ والصالح ليحل محل الأيديولوجيات الغربية، التي وفدت عبر قرنين، من أوروبا إلى ديار الإسلام.. والتي عجزت عن أن تحدث تقدما حقيقيا في هذه الديار؟ وهل سيكون هذا «التيار الإسلامي» أحسن حظاً من الأيديولوجيات الغربية.. فتتجذر تطبيقاته في الواقع الإسلامي؟ أم أنه سيكون مثل تلك الأيديولوجيات: صفحة تطوي، دون أن تحدث تقدماً واقعياً؟ وما هي الإيجابيات، والسلبيات، والتحديات التي تصاحب هذا الصعود الإسلامي، الذي شغل ويشغل كل فرقاء العالم الذي نعيش فيه؟ هذه الأسئلة طرحناها على المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة لاستلهام رأيه.. فإلى التفاصيل: - باعتبارك أحد المفكرين الإسلاميين الذين يراقبون مسيرة الأمة عن كثب.. ترى هل يحافظ الإسلام حتى يومنا هذا على دعوته الشاملة؟ لعلنا نتفق على أن الدعوة الشاملة للإسلام تعني أنه دين ودنيا، دنيا وآخرة، ومنهاج شامل لتدبير ملكات الروح والجسد، وشئون الفرد والأمة والإنسانية، وسياسة الدولة والاجتماع، وتقديم منظومة للقيم تحكم سائر شئون الحياة. وفيما يتعلق بالجانب العقدي والشعائري والروحي، لم يجادل أحد في استمرارية حيوية الإنسان في ميادينه، بأكثر مما هي في الشرائع الدينية الأخرى، فحتى عندما تراجعت أو عزلت حاكمية الشريعة الإسلامية عن بعض ميادين الدولة والاجتماع والسياسة والاقتصاد خاصة في ظل الاستعمار الغربي لأغلب أوطان عالم الإسلام فقد ظل الجانب العقدي والشعائري والقيمي قوي التأثير والجاذبية في حياة المسلمين.. وجاذبية هذا الجانب الروحي تتزايد في هذه السنوات، فشهد انعطافاً جماهيرياً للتدين، والحفاظ على الشعائر العبادية، وتحرّي معالم الحلال في العقائد والعبادات. أما الشق التشريعي والقانوني في الإسلام، وتدبيره لسياسة الدولة والمجتمع والذي عزلت حاكميته عن كثير من الميادين الحياتية، لتحل محله القوانين الوضعية ذات الفلسفة الغربية في التشريع والتقنين.. فإن هذا العزل لم يلق قبولا لدى جماهير المسلمين، الذين أحسوا أن فيه قطعا لإحدى رئتي الإسلام! لذلك شملت حركة الإحياء الديني الإسلامي، الحديثة والمعاصرة الإسلام العقدي، والشعائري، وإسلام الشريعة، والسياسة والاجتماع، والاقتصاد جميعاً. وعلى حين ظن البعض أن الإسلام قد تخلى بعد محاولات الاستعمار تحجيمه، وحصره في العقيدة والشعائر عن شموليته وتكامل منهاجه، كانت شمولية حركة اليقظة، والإحياء الديني المعاصرة تبديدا لهذا الظن.. فمحاولة علمنة عالم الإسلام ودوله وسياسة مجتمعاته لم تتجاوز القشرة التي أخذت تتحطم أمام سعي المد الإسلامي الحديث والمعاصر.. وقد شهد الغربيون على شمولية الدعوة الإسلامية، واستعصاء الإسلام على العلمنة والاختزال في العقيدة والتخلي عن الشريعة. فالإسلام مقاوم للعلمنة، وسيطرته على المؤمنين به قوية، وهي أقوى الآن مما كانت قبل مائة سنة مضت.. فهو لم يقبل قواعد المجتمع العلماني، مثلما فعلت المسيحية بعد صراعات كثيرة ومؤلمة، فحفاظ الإسلام على شمولية دعوته حتى يومنا هذا، حقيقة يشهد بها أهل العلم، حتى من غير المسلمين! الثوابت والمتغيرات - هل يمكن لدولة عصرية اعتماد الإسلام نظام حكم؟ الصيغة الوسيطة الجامعة التي مثلت وتمثل المنهاج الإسلامي في مختلف ميادين النظر والتطبيق، تجعل الإجابة ب «نعم» على هذا السؤال.. فلو أن الوحي الإلهي قد جاء لشئون الدنيا ولتدابير الدولة ونظام الاجتماع بالنظم المفصلة والقوانين واللوائح الجامعة المانعة، لتجاوز تطور الدنيا والدولة والاجتماع هذه القوانين، ولفقد الإسلام صلاحيته كنظام للدولة العصرية. لكن الإسلام قد جاء بتفصيل الاعتقاد والشعائر العبادية والقيم الخلقية.. وفي شئون الدنيا والدولة والاجتماع، وقد فصل في الثوابت وأجمل في المتغيرات. فهو قد حدد المبادئ والقواعد والمقاصد، وترك للاجتهاد الفقهي إبداع التطور في النظم والآليات والمؤسسات والفقه المواكب لمستجدات الحياة، لذلك كانت الشريعة وضعا إلهيا ثابتا، وكان الفقه اجتهادا إنسانيا وضعيا محكوما بالشرع الإلهي الثابت، الأمر الذي أتاح ويتيح لأصول الشريعة أن تمد بالاجتهاد الفقهي الفروع الجديدة التي تظل المستجدات والمتغيرات، دونما قطيعة مع الأصول والجذور والمنابع وفلسفة التشريع الإلهي ومبادئه وقواعده ومقاصده، وبذلك تظل إسلامية النظم في الدولة الإسلامية دائمة، مع فتح أبواب الاجتهاد لكل المستجدات والمتغيرات. لهذه الحقيقة، تميز «التجديد الإسلامي» الذي هو سنة من سنن الاجتماع الديني الإسلامي، لا تبديل لها ولا تحويل وفق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدد لها دينها»، تميز ويتميز هذا «التجديد الإسلامي» عن كل من «الجمود والتقليد» الذي يغلق أبواب التطور ومواكبة المستجدات، وعن «حداثة القطيعة المعرفية مع الموروث» والتي تعزل الجديد الدنيوي عن الثابت الموروث. وإذا كانت النظم والآليات هي إبداع بشري، بينما الوحي الديني والثابت الإلهي هو «المبادئ» و«المقاصد» و«أحكام الثوابت» فإن التجديد في النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية للدولة هو ميدان مفتوح الأبواب، بشرط أن تكون النظم المتطورة هي الأقدار على تحقيق أقصى الدرجات من المبادئ والقواعد والمقاصد التي جاء بها الوحي الديني والشريعة السماوية. فوقوف الإسلام في المتغيرات الدنيوية، عند «فلسفة التشريع» وتركه تفصيل التشريع والتقنين للاجتهاد والتجديد، هو الذي ميز النموذج الإسلامي عن الشرائع السماوية التي سبقت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. ففي تلك الرسالات السابقة كان التطور عندما يتجاوز الشريعة يأتي رسول جديد بشريعة جديدة.. أما في الشريعة العالمية والخاتمة الشريعة الإسلامية فإن التجديد والاجتهاد يقومان بمهمة مواكبة المستجدات، مع الحفاظ على الروح الإسلامية السارية في النظم التي تواكب وتستجيب لكل جديد. عودة إلى الأصل - هل النظام الإسلامي للحكم مرحلة حتمية ينبغي على الشعوب العربية أن تمر بها في معرض تطورها ؟ النظام الإسلامي بالنسبة لشعوب أمتنا، ليس «مرحلة» من مراحل تطورها.. لم يكن كذلك في الماضي، ولا يمكن أن يكون كذلك في الحاضر أو المستقبل.. ذلك أن إسلامية النظام هي إسلامية المرجعية في النظام.. وإسلامية المرجعية في النظام الإسلامي هي شرط لصحة واكتمال الإيمان الديني بالله سبحانه وتعالى.. فالإسلام لا يكتمل إذا نحن تصورنا الله مجرد خالق للكون والإنسان، وعزلنا شريعته عن أن تكون لها حاكمية التدبير في دنيانا ودولتنا، لأن الله في التصور الإسلامي: خالق، وراع ومدبر (ألا له الخلق والأمر) (قال فمن ربكما يا موسى، قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)، وشرط الصحة والاكتمال للإيمان بالله واليوم الآخر أن تكون المرجعية والحاكمية في شئون الدنيا ومنها الدولة والاجتماع للوحي الإلهي أو البلاغ القرآني، وللسنة النبوية. (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا، ألم ترى إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا). فالنظام الإسلامي، بالنسبة لشعوب الأمة، هو عودة إلى الأصل، يتحقق به اكتمال وكمال الإسلام، وليس مرحلة توجد ثم تتوارى من حياة شعوب أمتنا.. وبعودة هذا النظام تستأنف الأمة المسيرة الأصلية والطبيعية، وتنهي القطيعة الطارئة مع هذا النظام، تلك القطيعة التي أحدثها أساساً الاستعمار الغربي وفلسفته الوضعية وقوانينه اللادينية. مظاهر اليقظة - برأيك.. هل تأخذ ظاهرة اليقظة الدينية التي برزت في السنوات الأخيرة منحى إيجابيا؟ أعتقد أنه من الظلم ومن الخطأ النظر إلى ظاهرة اليقظة الإسلامية عند تقويم الإيجابيات والسلبيات فيها ككتلة واحدة صماء، فإذا مثلت هذه الظاهرة الإسلامية تيارا إحيائيا، ينبغي العودة كاملة إلى كامل الإسلام، واتخاذ هذا الإسلام منهاجا شاملا لكل مناحي الحياة العقدية والعبادية والخلقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعرفية.. الخ فإن في هذه الظاهرة العديد من الفضائل والتيارات التي تتمايز في إطارها العام.. فهناك الجماهير العريضة، غير المؤطرة ولا المنظمة في أحزاب أو الحركات، والتي اندفعت وتندفع ملايينها إلى الالتزام بأحكام الإسلام، باحثة عن حدود الله في شئون حياتها، وعن معالم الحلال والحرام في هذه الحياة.. ومحيية سنن الإسلام وشعائره في تفاصيل شئونها الحياتية.. هناك فصيل وتيار العمل الخيري الذي أقام ويقيم في عالم الإسلام، آلاف الجمعيات والمؤسسات الخيرية والإغاثية والتنموية والصحية والفكرية والثقافية والتعليمية الخ ..وهو تيار يقيم قطاعاً من البنية التحتية التي تسهم في تخفيف مشقات حياة الناس بواسطة الحلال الإسلامي، مبرزاً دور الإسلام في البناء الاجتماعي والإنساني. وهناك أهل الفكر والاجتهاد والتجديد، الذين نذروا أنفسهم لصناعة الفكر والثقافة انطلاقا من المنظور الإسلامي، يبدعون في ميادين الفكر الإسلامي، على تعدد وتنوع هذه الميادين، إصلاحاً لمناهج هذا الفكر، وتجديداً لفلسفاته، وصياغة لمعالم وسمات وقسمات مشروع حضاري إسلامي، يكون دليل عمل لكل فصائل وتيارات الإحياء الإسلامي المعاصر .. وهناك التيار الحركي المنظم والمؤطر في أحزاب وجماعات وجمعيات ذات مقاصد سياسية.. وأغلب هذا التيار يلتزم الوسطية الإسلامية والاعتدال الإسلامي.. فيدعو إلى برامجه ومقاصده بالكلمة الطيبة، والحكمة والموعظة الحسنة، ويحاور ويجادل الفرقاء غير الإسلاميين بالتي هي أحسن بل يصبر ويصابر على الكثير من ألوان القهر والتضييق والعقبات والحجر التي تصب عليه وتوضع في الطريقة ويعاني الابتلاء بها.. وهو يحتكم إلى جماهير الأمة عبر آليات الشورى والديمقراطية. وهناك من أهل الحركة شريحة محدودة العدد، اختار شبابها طريق الغضب والرفض والعنف والاحتجاج .. إما «رد فعل نزق» لعنف النظم والحكومات التي حرمتهم من العمل القانوني السلمي والمشروع.. وإما لتأويلات فاسدة لبعض المأثورات الإسلامية، وهذه الشريحة وإن قل عددها، إلا أن صوتها قد أصبح عاليا، كطبيعة أصوات الغضب والاحتجاج دائما وبسبب من المخطط الإعلامي الخبيث الذي يسلط على هذه الشريحة كل الأضواء، ليشوه كل الصور، وليلقي ظلال هذه الشريحة على كل الموكب العريض لظاهرة اليقظة الإسلامية المعاصرة.. وذلك بهدف حجب الإيجابيات الكبيرة والكثيرة لأعظم ظواهر عصرنا عن أنظار الجماهير! البديل الإسلامي - وماذا عن منهج الدكتور محمد عمارة في التأليف؟ مشروعي الفكري قائم على دعامتين أساسيتين هما: إظهار تفوق وعظمة الإسلام كشريعة وعقيدة وعبادات ومعاملات على ما سواه من النظريات والفلسفات الأخرى قديمة كانت أو حديثة، والرد على الأفكار والأيديولوجيات المضادة أو المناوئة للإسلام، لذلك أهتم كثيرا بفكرة المقابلة والبديل الإسلامي للنموذج الغربي مثل كتاباتي عن: «الإسلام وفلسفة الحكم»، و«الإسلام وأصول الحكم»، و«الإسلام هو الحل .. لماذا وكيف؟» وغيرها من الكتب التي رددت بها على العلمانيين ودعاة التغريب. العدو الأول أخيراً من هو العدو الأول للإسلام حالياً؟؟ العدو الأول للإسلام، فهو ذلك الذي يناصب الإسلام وأمته وعالمه العداء، جاعلا منه ومن أمته وعالمه العدو الأول، وموجها إلى المسلمين آليات أحلافه العسكرية ومؤامرات مؤسساته السياسية، وضغوط منظماته الاقتصادية، وانحلال ثقافته وإعلامه. وإذا كان الغرب قد تجاوز مرحلة التآمر إلى طور الإعلان عن اتخاذه الإسلام وعالمه وأمته عدوا أول بعد أن فرغ من نزاعه الداخلي في إطار حضارته الواحدة، مع الشمولية الماركسية، فإنه هو الذي يفرض على المسلمين أن ينظروا إليه نظرتهم إلى العدو. وبعبارة عالم الاجتماع الإنجليزي «إدوارد مورتيمر» يقول: «فلقد شعر الكثيرون في الغرب بالحاجة إلى اكتشاف تهديد يحل محل التهديد السوفييتي وإمبراطورية الشر الشيوعية، وبالنسبة لهذا الغرض، فإن الإسلام جاهز في المتناول!» هذا هو الذي أعلنته دراسات وأبحاث كثير من مؤسسات الغرب البحثية والاستراتيجية والسياسية.. بل والمؤسسات الموجهة لآلة الحرب والدمار الغربية مثل حلف الأطلنطي، على لسان أمينه السابق «ويلي كلايس» ومثل المجلس الوزاري الأوروبي، على لسان السابق «جيانى ديميكليس» ومثل الرئيس الأمريكي الأسبق «نيكسون» الذي دعا الغرب في كتابه «الفرصة السانحة» إلى أن يحدد للشعوب الإسلامية الخيار العلماني، الذي يربط المسلمين بالغرب من الناحية السياسية والاقتصادية! معلنا أن انتصار التيار الإسلامي، الذي يسعى إلى «استرجاع الحضارة الإسلامية، وتطبيق الشريعة الإسلامية، واتخاذ الإسلام دينا ودولة، سيؤدي إلى ردود فعل خطيرة في العالم! فالذين يتخذون الإسلام عدوا أول، هم الذين يفرضون العداوة على أمة الإسلام.. وإذا كان علينا أن نتحاشى المجابهات العدائية ما وجدنا إلى ذلك سبيلا، فإن هذه الجهات تصبح قدرا لا مفر منه إذا كتب علينا القتال دفاعا عن الذات الحضارية والهوية الإسلامية لأمة هذا الدين.