جمعتني أمسية جميلة بمجموعة أصدقاء، منهم المحامي والمستشار ورجل الأعمال، وأخذنا الحديث عن المصرفية الإسلامية، وهل حقيقة أن هناك بنوكاً ربوية وأخرى إسلامية، وبين مؤيد ومعارض ومحوقل ومستغفر كان هناك رأي آخر أشارك به القارئ على صفحة عكاظ. في الحقيقة وعلى أرض الواقع عمليات البنوك هي في حقيقتها إسلامية، فالعمل المصرفي بتعاملاته المعهودة عرف منذ عهد الصحابة. فالقول بأن هذا بنك ربوي وذاك إسلامي فيها معاني المجاهرة بالكبائر، فضلاً عن أنها غير صحيحة، يكتنفها معاني الإقرار والرضا بهذا الشيء وهو من الكبائر ومما يجب إنكاره لا الإقرار بوجوده بين المسلمين والرضا به، كأمر مسلّم به معروف عرفاً غير منكر عليه، فوجب علينا حمل تصرفات الناس على الصلاح وحسن الظن بهم، فكل أعمال البنوك القائمة اليوم لها أساس في الدين. فبيع العينة مثلاً وهو أن يبيع الرجل غيره شيئاً بثمن مؤجل ويسلمه إليه ثم يشتريه منه قبل قبض الثمن بأقل من ذلك نقداً، يقول عنه النووي «فليس من المناهي بيع العينة». وأكد الماوردي في الحاوي أنه ذريعة إلى ترك الربا وهو أمر مستحب، مستشهداً بحديث (تمر خيبر) الذي أخرجه البخاري باب البيوع ومسلم باب المساقات، وصورته أن يقوم البنك بشراء سيارة نقداً ثم بيعها بالتقسيط على المستفيد، الذي يتولى بعد ذلك بيعها نقداً بثمن أقل. وهو ما يسمى لدى البنوك ببيع المرابحة، وفي المنظور الفقهي بيع التورق وقد أجازه ابن همام فتح القدير، وابن عابدين في الحاشية، والنووي في الروضة، وابن مفلح في الفروع، وابن القيم شرح السنن؛ والغرض منه هو الحصول على المال وليس السلعة، لذا فإن العقلاء يلجأون إلى القرض المباشر من البنك بدلاً من اللف والدوران حول العينة والتورق، والزيادة التي يفرضها البنك على القرض كعمولة لا يأتي لها ذكر في صلب العقد، وإنما ينص العقد على السداد بأقساط تساوي مجموعها القرض دون زيادة ويجعل البنك الزيادة بدفعها مقدماً خصماً من القرض أو مع الأقساط، ويتم ذلك من دون ذكر له في صلب العقد وإنما بجداول ملحقة توضح فيه الأقساط واستحقاقها، وهذه الملاحق من ناحية فقهية لا أثر لها في صحة العقود أو بطلانها على رأي ابن حجر في فتح الباري وابن تيمية في الفتاوى، والعقود إذا لم تتضمن في صلبها ما يفسدها من الشروط فهي ليست فاسدة، فلا يحق وصف قرض الأشخاص من البنوك بأنها عقود ربوية طالما أنها خالية من شرط الزيادة فالعقد صحيح. إن القول بأن هذا بنك إسلامي والآخر ربوي يقتضي خلو عقد الأول من شرط الزيادة ووجودها في عقد الثاني وهذا على خلاف الواقع، فالبنوك الربوية والتي يطالب البعض بمنعها، لا يرد في صلب عقود القروض التصريح بشرط الزيادة، بينما الذي يجري في ما يسمى بنوك إسلامية أنها تأخذ على القروض ما يسمى بالتكاليف الفعلية في حدود 3% من رأس المال للقروض الميسرة و7% أو ما يحكم السوق في القروض التجارية، ويأتي شرط الزيادة منصوص عليه في صلب العقد، مع أن مطلق الزيادة المشروطة في صلب العقد تخرج العقد عن شرعيته، وقد أقرها مجمع الفقه الإسلامي للبنك في دورته الرابعة عشرة في الأردن. لقد أصبحت البنوك من الضروريات في حياة الناس وتمثّل باباً عظيماً من أبواب المصالح المرسلة ويقصد بها المعاملات والعقود التي تجلب منفعة راجحة، وليس في الشرع ما ينفيه، وهذه المصالح جائز الأخذ بها إن كانت في الضروريات، والمستند الشرعي لها هو الأصل في معاملات الناس وعقودهم الإباحة أكده ابن النجار الكوكب المنير والغزالي المستصفى وابن قدامة الروضة، فمنافع البنوك اليوم ليست جديدة على المسلمين من حيث الجوهر والمضمون، فأغلب أعمال البنوك لها أصل في الشرع، فقد أقر الصحابة مجتمعون على استحقاق المستثمر للوديعة بغير إذن المودع لجزء من الاستثمار في قصة استثمار ابني عمر بن الخطاب في خلافته لوديعة أبو موسى الأشعري في البصرة فاتجر واستثمر ثم أعاد الوديعة إلى صاحبها مع جزء من الربح واستحق الجزء الآخر وقبضاه لحديث رسول الله الخراج بالضمان، بمعنى أن ما أستحقه المستثمر على رأس المال بالوديعة المضمونة وهي أيضاً في معنى القرض، إنما هو لقاء الضمان في ما لو تلفت هذه الوديعة كما ذكر ابن تيمية في الفتاوى. وينظر إليه من باب تصرف الوكيل الفضولي في مال الموكل، وقد أقره الرسول في قصة عروة البارقي، وحكم بن حزام، وقد اعتبره ابن قدامة في المغني أن هذين أصلان لكل من تصرف في ملك غيره بغير إذنه، وقوله عليه الصلاة والسلام (اتجروا في مال اليتيم كي لا تأكله الصدقة)، فالحديث يدل بإشارة النص على جواز الاستثمار بغير إذن؛ لأن اليتيم لا إذن له، والاتجار بالودائع هو ضرب من أعمال البنوك. كان الناس يودعون أموالهم عند الزبير بن العوام في مكة للسلامة من مخاطر الطريق أو للتجارة أو لمجرد الحفظ، وهذا عمل من أعمال البنوك في وقتنا الحاضر، وهو حفظ الأموال، وكان ابن العوام يحوّل الوديعة إلى قرض ليتاجر بها ويستثمرها وتكون مضمونة لصاحبها وربما أعاد القرض بزيادة غير مشروطة، كما كان يأخذ الوديعة من الحجاج والتجار في مكة، ويشترطون عليه استلامها في البصرة فيكتب بها لابنه هناك وهو ما يعرف بالسفتجة في مفهوم الفقهاء والحوالة المالية في مفهوم البنوك، وقد اختار ابن تيمية جوازها، لأن المقرض والمقترض انتفعا باستثمار القرض فكلاهما منتفع به، والشارع لا ينهى عما ينفعهم ويصلحهم، بقي أمر واحد يفرق به بين المعتبر والملغي من هذه المعاملات وهو شرط الزيادة، وعامة البنوك لا تورده في صلب العقد، فلا يصدق والحال كذلك التشهير بأن هذا من باب التعامل بالربا، ولكن حتى وإن أوردت هذه البنوك هذا الشرط صراحة فهل يحرم التعامل معها والعمل في وظائفها؟! ولقد كان فريق من الصحابة يتعاملون بالتجارة والزراعة مع اليهود في المدينة وخيبر، بل كان الرسول عليه الصلاة والسلام يتعامل معهم بالبيع والشراء والإيداع والرهن، وقد اقترض من اليهود لسداد دية القتلى من بني عامر، بل قد أجاز القرآن مخالطتهم والتزاوج منهم وأكل أطعمتهم مع ما هو معروف عنهم من سوء العقيدة، بل إن بعض أموالهم يخالطها الربا وإن وظفت بنوكنا أموالها في البنوك الخارجية واستثمرتها فهي في ديار غير المسلمين ولا يجري الربا أصلاً ولا ينعقد له معنى في دار الحرب كما جاء في حديث مكحول، ولذلك رد ابن تيمية في الفتاوى دعاوى تحريم التعامل مع من عرف عنهم بالربا. وسئل فضيلة الشيخ ابن منيع عن رأيه في قيام بعض المصارف الربوية بجمع الأموال على أنها للاستثمار في عقود المرابحة الإسلامية ثم يتم استثمارها في خزانة المصرف على شكل ودائع ربوية صريحة هل هذا غش وتدليس على العملاء والهيئات الشرعية في رأيه، أجاب فضيلته إن ذلك جائز شرعاً وطالب السائل بعدم الخوض في مثل هذه التجاوزات البسيطة. فأعاد أحدهم السؤال قائلاً إنه كان مسؤولاً عن الخزانة في أحد المصارف الربوية وكنا نجمع الأموال من العملاء على أنها للاستثمار في المرابحات الإسلامية ثم نقوم بخلطها مع الأموال الربوية ثم نستثمرها جميعاً، بطريقة ربوية فأكد الشيخ المنيع جواز ذلك، فلا يصح أن نصف البنوك بأن هذا إسلامي والآخر ربوي.