أغلقت المكالمة الهاتفية مع موظف المستشفى؛ الذي تم فيه إجراء عمليتي الجراحية بقوله: «لا تتأخر في الحضور الليلة استعداداً للعملية صباح الغد».. عجزت أن أفسر الإحساس العميق الذي انتباني بعد هذه العبارة.. أغمضت عيني ببطء لأغرق في ثمالة دفتر الأيام والذكريات مع أناسٍ كانوا كسحاب مدرار هادئ أفقدني الموت الاستئناس بهم والمكوث معهم.. تصببت عرقاً وقرأت آيات الطمأنينة ليس خوفاً من إجراء العملية إنما يقيناً بما كتبه الله لي.. فأبواب السماء لا تُغلق خصوصاً وقت طلب الحاجة من الخالق تعالى (أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء). في غمضة عين وانتباهتها؛ جاءتني ابنتي لتمسح بيديها الناعمتين الرقيقتين على جبيني المتصبصب عرقاً، فتوقضني من ذكريات أيامٍ خوالي مع أولئك الراحلين، وتستبدلها بسكينة نورانية بمذاق طفولي خاص.. وما إن استعدت لياقتي النفسية بتلك المسحة الطفولية من صغيرتي حتى تأرجح إلى ذهني أقوال كنت أسمعها عن الحالات النفسية للمرضى.. أقوال هرولت إلى نفسي كما يهرول معتمر بين العلمين الأخضرين في الصفا والمروة.. ملخص هذه الأقوال: «إن معظم الأمراض بسبب عوامل نفسية لإصابة الوهن للأجساد الضعيفة». بين مشاعر تلك الذكريات وإحساس بالمسؤولية لمشاريع عملية مطلوب مني إنجازها بإتقان كالعادة؛ تيقنت أننا نحن البشر ذوي الأعمار المحدودة، أسرى لحياة تجمع المتناقضات؛ أهدافاً ورغباتٍ نريد تحقيقها، وسعي خلف مجهول أنسانا حكمة الله في خلقنا (وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون). وبين رفة عين بذكريات أحبة فقدتهم، وعلة داء أجبرتني على الاستسلام لمشرط طبيب، ومسحة طفلة منحتني أملاً في الحياة؛ إذا بهاتفي يرن وفي الطرف الآخر رجل نضحت على فرن محبته يبادرني دون سلام: ألم تَشْتَقْ للكتابة، منذ فترة لم نرَ لك مقالة؟.. قلت له يا صديقي: أشعر بالخذلان بعد فقدي مشروعاً تجارياً تبنيته من اللاشيء لمدة عامين فيطير بجناحيه إلى غيري، ولولا الوقار لملأت الطرقات بصراخي ليسمع الجميع انفجار نبضات قلبي.. عبارته «اقلب الصفحة» التي جعلتني كحمامة تسكن منارة مسجد؛ منحتني قدراً كبيراً من التوازن ضخّمت الحياة في نظري، وجعلتني أكتب هذه العجالة. أخيراً: في تفسير الحديث النبوي (ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك)؛ إن الإنسان لا ينجو من المكروهات بحذقه ومهاراته وكياسته وشدة تحرزه، إنما قدر الله عليه لا بد أن يلحقه، فما لم يكن مكتوباً عليه فلا يمكن أن يقع عليه.. حينها قلت لنفسي: «لا تحزن»، فما ذلك الابتلاء الإلهي إلا محبة من الله.