كانت أمسية النادي الأدبي بالرياض عن الإذاعي الكبير الأستاذ ماجد الشبل فرصة سانحة لاستعادة اسم هذا الرجل الكبير الذي غيبه المرض عن محبيه، ولم يغيبه عن ذاكرة الأوفياء. أعرف أبا راكان منذ ما يقرب من أربعين عاماً؛ فقد دخلت عليه عام 1398ه بعد أن قرعت باب مكتبه أبحث عن الأستاذ إبراهيم الذهبي - رحمه الله - فهو المكلف بإجراء تجربة صوتية لي. وحين أذن لي بالدخول بكلمات خفيضة لم أكد أسمعها منبعثة من داخل المكتب التقت عيناي لأول مرة بماجد الشبل الذي كنت أسمعه وأره، وما كنت أعتقد يوماً أنني سأعمل معه وأشاركه القراءة في الإذاعة والتلفزيون بعد ذلك. كان ماجد أمامي مباشرة حين دخلت، وفي الجانب الأيسر يجلس الأستاذ الإذاعي الكبير إبراهيم الذهبي، وفي الجانب الأيمن المخرج الأستاذ مهدي يانس. هؤلاء نجوم، وأسماؤهم تحلق في السماء؛ فكيف لي أن أتحدث إلى الذهبي لأطلب منه تسجيل التجربة الصوتية وفق الخطاب الموقع من كبير المذيعين الأستاذ المرحوم محمد الشعلان. وقد أمسكت بالخطاب جيداً خشية أن يسقط أو يفلت من يدي! أجابني الذهبي بصوته العريض الضخم: «يا الله جايك! قوم يا أبو راكان نشمط هالتجربة لها الشاب»! تأملت ماجداً فوجدته الشاب الوسيم الباش الأنيق المبادر بالترحيب. قال: انتظر قليلاً ريثما ينتهي إبراهيم مما بين يديه. ثم سألني: ما هذا الكتاب الذي تحمله؟ وهل أنت طالب في الجامعة أم تخرجت؟ قلت له: هذا ديوان لأمل دنقل عنوانه «مقتل القمر»، وما زلت طالباً في الجامعة، في السنة الثانية بكلية اللغة العربية. قال ماجد: «عظيم ورائع. جاءك يا أبا نضال من يحب الأدب. استوصِ به خيراً»! نهض الذهبي، وصحبته إلى مكتب كبير المذيعين، فنادى على الشعلان، ثم أخذ الهاتف، وتحادث مع عدنان الدبسي طالباً منه الحضور إلى استديو4. اجتمع القوم على رأسي، وكنت أعتقد أن المكلف بتجربتي واحد، فإذا هم أربعة: الذهبي وماجد والدبسي والشعلان! كيف لي أن أقرأ ولا ألحن أمام هؤلاء؟! إنه لأمر يثير الارتباك؛ لأن كلمة «اختبار» في حد ذاتها توتر الأعصاب، وتحفز الأدرينالين، وتوقع من لا يخطئ في الخطأ! وبعد انتهاء التسجيل بقراءات مختلفة لنصوص إخبارية وأدبية وشعرية، وخروجي من الاستديو والعرق يتصبب من جبيني، ربت ماجد على كتفي، وقال: ستكون معنا هنا يوماً ما، وسيتولى إبراهيم الذهبي تأهيلك! لقد أعاد أبو نضال بالفعل صياغتي الفكرية والثقافية؛ فنقلتُ عربتي من طريق إلى طريق، وبدأت البحث عن مسارات جديدة متكئة أو متقاطعة مع ما كنت شغوفاً بالقراءة فيه من أفكار وتيارات ورؤى، وابتدأ به ومعه مشوار حافل من الإثارة والإبهار والاكتشاف والمتعة الفنية والعقلية، امتد خمسة عشر عاماً - رحمه الله -. وإذا كان للذهبي فضل في تأهيلي للعمل الإذاعي فإن لماجد الشبل الفضل الأول في إقناعي وتشجيعي والأخذ بيدي إلى محطة التلفزيون القديمة التي كانت تسمى «الصندقة» عام 1401ه لإجراء تجربة تلفزيونية، وتولى الإشراف عليها وكتابة تقرير إيجابي عنها، ثم أخذ بيدي ثانية ليعرفني على المدير العام للتلفزيون آنذاك الأستاذ محمد الفهيد، ولأبدأ بعد تلك التجربة والموافقة عليها في تقديم برنامج «اخترنا لكم»، بوصفه أول انطلاقة لي في العمل التلفزيوني، بإشراف المخرج الأستاذ محمد الشقاوي. ماجد ظاهرة صوتية ولغوية وثقافية، وإحساس أدبي عالٍ. وبالرغم من مظهر الأنفة الطاغي الذي يصدم به من يلقاه أول مرة فإنه يبدأ في الذوبان والتلاشي سريعاً؛ ليتحد ويتمازج مع محدثه، وكأن بينهما صحبة سنين لا لقاء ساعات. كانت أنفته واعتزازه بنفسه منبعثة من ثقته الكبيرة بقدراته ومواهبه الكبيرة. وقد أقام ذلك الشعور حاجزاً وهمياً بينه وبين بعض مديريه، حرمه مما كان يستحقه من مكانة وظيفية قيادية عالية.