في الذكرى الثامنة لرحيل المعلّم الصحفي الأستاذ تركي السديري، نستذكر مآثره ودروسه وسجاياه، لأنه ملهم، وصاحب إنجاز فذّ يتعين أن يُحتذى، كما ينبغي أن تتعرف عليه الأجيال الشابة، والمشتغلون في الإعلام. لقد أرسى الراحل الباقي تقاليد صحفية عريقة، ما أحوجَنا في هذه الأيام إلى استعادتها والتشبّث بناصيتها، فقد ارتبط القارئ العربي، والسعودي على وجه الخصوص، بشخصية السديري وأسلوبه ونهجه، فقد كانت مآثره جليلة، وكتاباته عميقة وممتعة وجريئة تدلّ على شمولية الرؤية، وسعة الاطلاع على الأحداث والتفاعلات المحلية والعربية والدولية. وحتى لا يبقى السديري مجرد ذكرى سنوية يخفت وجهُها مع الأيام، فلا بدّ أن نجدد الدعوة التي أطلقها من قبل عدد من الكتاب والصحفيين السعوديين المرموقين، وفي مقدمتهم الأستاذ الصحفي الكاتب جميل الذيابي، من أجل جعل التكريم للسديري ممتداً في الزمان والمكان، وها نحن نشدّ على أياديهم، ونثمّن مقترحاتهم الوفية والكريمة بتخصيص جائزة للصحافة باسم تركي السديري، وهذا أقل ما نقدمه تخليداً لأعلامنا، من أجل أن تظل جذوتهم متقدة، ونضع هذا المقترح بين يديْ (هيئة الصحفيين السعوديين) التي يقودها شباب متحمسون، برئاسة الأستاذ عضوان الأحمري، يتوقون إلى خدمة الأهداف المهنية للصحفيين في المملكة، وأن يكون الإعلام السعودي رائداً في محتواه ومهاراته وأخلاقيات القائمين عليه. وأضيف إلى مقترحات الزملاء الأعزاء أن يتم تخصيص مقعد للدراسات العليا في جامعاتنا التي تدرّس الصحافة والإعلام، يكون بمثابة منحة دراسية لمستوى الماجستير، أو تخصيص كرسي أكاديمي باسم هذه الشخصية التي تسد أشواق السعوديين في التميز والمثابرة والمصداقية، وتوخي الأخبار الدقيقة، ومكافحة الشائعات والأنباء الكاذبة والمفبركة، وما أكثرَها في فضائنا المفتوح. لقد كان تركي السديري، رحمه الله، علَماً ساطعاً في دنيا الإعلام، وكاتباً مبدعاً متدفقاً يمتلك القدرة على استشراف ملامح التطورات وديناميكية الأحداث، وبالتالي طرح القضايا ومناقشتها بعقلانية وواقعية، خصوصاً في زاوية (لقا) اليومية في صحيفة (الرياض)؛ التي كانت تعبق بأنفاس الوطن وضميره وأشواقه، وتأخذنا في رحلة يومية للاشتباك مع الحياة والعالم. وبلا ريب أنّ زاوية (لقا) كانت منبراً مضيئاً يحمل بين ثناياه رؤية الكاتب المستقبلية، وعمق تحليلاته لمجريات الأمور. هذه الكتابات الخلاقة تركت بصماتها التي لا تمحى في ذهنية الصحافة والصحفيين، وحفّزت قيم الارتقاء لديهم إلى أعلى درجات العطاء والإبداع الثقافي، وعكست، فضلاً عن ذلك، بعداً جديداً في مفهوم الكتابة الصحفية اليومية، الأمر الذي كان له بالغ الأثر في صقل وتثقيف أجيال عدة خلال أزيد من أربعين عاماً من رئاسة تحرير جريدة (الرياض) بفضل الجهود التي بذلها السديري، من حيث الموضوعية والمصداقية والعلاقة بين الكاتب والقارئ. ولا تزال كتابات السديري أهرامات شامخة بالنور والحق وصلابة الخير في أكثر المنعطفات التي مرت بها المملكة، لا سيما أثناء اشتباك السديري وصحيفته مع قوى الظلام (الصحوي)، ومواجهتها الشجاعة مع التيارات المتطرفة التي كانت تسعى لاختطاف المجتمع، وتدمير قيمه الإسلامية القائمة على الاعتدال والوسطية والخيرية. ظلت كتابات السديري في زاوية (لقا) منتسبة إلى النور، ومثلت مصابيحُ رؤاه شموساً في مقاومة أرتال العتمة وجحافل الجهل والتزمت. وهذه هي الكتابات التي يتعين أن تظل مرشداً للأجيال، لأنّ صاحبها تمسك بالرؤية العميقة، وهذا واجب الصحفي والكاتب الحر المستقل النبيل. الكتابة الملهمة هي ما يمكن أن توصف به الصحافة التي قاد السديري سفينتها وسط العواصف العاتية. وكنتُ من أولئك الذين يواظبون على متابعة وقراءة وانتظار ال(لقا)، بل اعتبرتُها وغيري من الزملاء من المراجع المهمة ذات الصدقية، خصوصاً في ظل غياب المعلومة للسفراء في الخارج، وعدم توفر محرك (قوقل) أو مواقع التواصل الاجتماعي في الإنترنت وقتذاك. لقد كنتُ ممن حالفهم الحظ بالتعرف على شخصية الراحل عن كثب، عندما كنت سفيراً في السويد، أثناء زيارة سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، يحفظه الله، وكان آنذاك أميراً للرياض، وتمّ ذلك في ال28 من حزيران (يونيو) 2008، حيث لمست مدى تواضع الراحل السديري واهتمامه بدعم الكفاءات الوطنية، إذ طلب من جريدة (الرياض) إجراء مقابلة معي للتحدث عن الزيارة الميمونة، التي شكلت منعطفاً جديداً في مسار العلاقات الثنائية بين السعودية والسويد، وتنميتها، والاستفادة من طاقات وإمكانات البلدين لخدمة مصالحهما المشتركة. لم يكن هذا الموقف غريباً على هذا الصحفي المحترف، صاحب العطاء المتدفق، والعلم الكبير، فلطالما اهتم بالكثير من المبدعين الذين تشتعل في أذهانهم الأفكار النيّرة، فأخذ بأياديهم وأمدّهم بالثقة، بل وأسهم في تنمية مهاراتهم الفكرية والثقافية والإعلامية، بما يخدم هموم الوطن والمواطن. سيبقى الأستاذ تركي السديري، رحمه الله، منارة مضيئة. ولعل من أكثر السبل إنصافاً لمسيرة هذا الرجل أن نخصص جائزة أو كرسي دراسات، كي يتعلم الشباب من مآثر هذا المعلم، ومن التقاليد التي أرساها في الصحافة والحياة وحب الوطن، من دون قيد أو شرط.