خلال سنوات قليلة توفي أربعة من عمالقة الطبقة الأولى من المثقفين والكتاب السعوديين، كانوا ملء السمع والبصر نجوماً في فنهم، كباراً في أخلاقهم، ومع اختلاف خلفياتهم وتياراتهم الثقافية التي ينطلقون منها أو ينتمون لها، إلا أن ذلك لم يمنعهم من الالتقاء والحوار وحتى الاختلاف دون السقوط في شباك المصادرة أو التحريض أو الكراهية. عرفت الدكتور عاصم حمدان أديب المدينة البارع وقلمها السيال في أوائل التسعينات، كان الدكتور عاصم حينها في منتصف العمر كاتباً مبدعاً في صحيفة المدينة وأستاذاً في قسم اللغة العربية، وأديباً ومؤلفاً لا يباريه أحد في تاريخ الإنسان والمكان بالمدينةالمنورة ومكة المكرمة. كان إسلامياً بطبعه، لكنه لم ينتم أبداً لا لتيار الصحوة ولا لتيار الإخوان، اللذين كانا يتنمران على الجميع ويحاربان كل من كان خارجهما. مع ذلك بقي عاصم إسلامياً وسطياً وقلباً جامعاً حتى مع من يختلف معهم، وفي الوقت نفسه وطنياً منافحاً عن بلاده والقيادة، وما زلت أنصت لكلماته في آخر لقائي معه قبل وفاته رحمه الله بأيام، يقول نفس وصاياه، محذراً من التيارات. كنا شباباً صغاراً، وكان من الممكن لأي من طلابه أن ينساق وراء أي من التيارات الفكرية، لكنه كان حاداً إذا تطلب الأمر إيقاف تلامذته من الانجراف وراء فكرة ذات بعد غير وطني، حليماً آخذاً بيد طلابه إلى بر الأمان. أما أستاذنا الكبير الأديب عبدالرحمن المعمر - الذي فجعنا بفقده قبل أيام - فتلك قصة أخرى، إذ كان جسر نجد وحامل عذوبتها وتاريخها وتراثها وفكرها إلى محبيه في مدن المنطقة الغربية «الطائف ومكة وجدة»، عارفاً بتفاصيل العائلات والقبائل، مندمجاً دون تخلٍّ. عرفت الأديب «المعمر» عن طريق الأستاذ والكاتب البارع أحمد العرفج في 2008، فقد سأله عني إثر ما كنت أكتبه من مقالات في صحيفة الحياة لفتت انتباهه، العرفج كان ممهداً لطريق القلوب بيني وبين أستاذنا المعمر الذي يجيء في كل مواقفه متواضعاً وهو القامة الأدبية الكبيرة، كان ملهماً فاتحاً النوافذ للقصص والأفكار الصحفية، أما على المستوى الإنساني فقد كان هو من يبادر ويسأل ويتفقد أحبته وتلاميذه، وهي شيمة الكبار دائماً. الكاتب في صحيفة «عكاظ» الأستاذ عبدالله أبو السمح رحمه الله كان وجهاً آخر من أوجه الكتابة والثقافة، وكان الأستاذ الوجيه أحمد المغربي بطبعه المهذب هو الجسر بين طبقة مثقفين كبار من أمثال أبو السمح وعبدالله خياط رحمهما الله، وشباب من أمثالي. كان أبو السمح من المحسوبين على تيار التنويريين من كتاب الصحف السعودية، وبالرغم من خلفيته البنكية إلا أنه كاتب بارع لاذع ذو لغة سليمة، صاحب القلم اللاذع والمقالات المدوية، خاض العديد من السجالات الصحفية الساخنة، إذ كان يلتقط ما لا يلتقطه غيره من أفكار لمقالات تصبح في ليلة وضحها حديث المجالس، هو أيضاً لم يتعالَ على جيلنا، بل كان قريباً يصرُّ على السؤال والالتقاء والحفاوة. عمدة الصحافة وكاتب «عكاظ» الكبير المثقل بهموم المجتمع الأستاذ عبدالله خياط رحمه الله، لم يكن بعيداً عن زملائه أدباً وتواضعاً جماً، فضلاً عن خط كتابي خاص لا يشبهه فيه أحد، يستند على ذاكرة حيّة وحصيلة واسعة من التراث وظفها في مقالاته الساخنة. عمالقة من طبقة أدبية نادرة غادرونا دون أن يحل مكانهم أحد، خلت الصحف منهم، وأصيبت الصوالين والمجالس والاجتماعات بوحشة غيابهم، فما عدنا نسمع من ينصح مثل عاصم حمدان، ولا من ينتقد بأدب لاذع مثل أبو السمح، ولا من يغمر أصدقاءه ومحبيه بالمعارف والذكريات والتاريخ الثمين كالمعمر، ولا مكتبة متحركة تشع علماً وثقافة كما الخياط.