شهد عدد من الجامعات الأمريكية؛ وعلى رأسها جامعة كولومبيا وجامعة نيويورك وهارفارد، موجةً من المظاهرات والاعتصامات المُطالبة بوقف إطلاق النار في قطاع غزة، والداعية إلى تغيير سياسة الإدارة الأمريكية اتجاه القضية الفلسطينية ودعمها المفتوح لإسرائيل، ولافت للنظر أن هذه الموجة الاحتجاجية لم تتوقف عند الجامعات الأمريكية بل عبرت المحيط الأطلسي، لكي تصل إلى القارة العجوز؛ فشهدت ألمانياوفرنسا وبريطانيا احتجاجات مماثلة. على امتداد سنوات وعقود طويلة لم نعد نرى من يؤيد القضية الفلسطينية ومن يعارض السياسات الأمريكية من داخل بلاد العم سام، ولكن هذه المرة الأمر مختلف؛ حيث إننا لا نتعامل مع أشخاص أو مفكرين أو مؤثرين، ولكننا نتعامل مع موجة تضم أطرافاً متعددة؛ وعلى رأس هؤلاء اتحادات الطلبة وكذلك حاملو الأيديولوجيات اليسارية والبعض منهم ممثل للتيار التقدمي في الحزب الديمقراطي الذي يتزعمه المرشح السابق بيرني ساندرز. الإدارة الأمريكية كما الجانب الإسرائيلي يأخذان هذه الاحتجاجات على محمل الجد؛ لأنهما يدركان أن الزخم يمكن أن يتحول إلى موجة عارمة كما حدث في تجارب تاريخية سابقة وأدت إلى تغيير تاريخي في سياسات الولاياتالمتحدةالأمريكية كما أحدث التغيرات في عدد من الدول. خذ على سبيل المثال لا الحصر الاحتجاجات ضد الحرب في فيتنام التي أدت إلى وقفها، كذلك الاحتجاجات التي شهدتها عدد من الجامعات العالمية ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والتي أدت إلى نشوء موجة عزلت هذا النظام السياسي، وأدت إلى سقوطه في نهاية المطاف، كما يمكن أن نضرب مثالاً آخر؛ الاحتجاجات التي شهدتها فرنسا في شهر أيار/ مايو 1968، والتي أدت إلى استقالة الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول. الأخطر من ذلك من وجهة نظر إسرائيل أن هذه الحركات الاحتجاجية تشير إلى تغيرات عميقة تجري تحت السطح في المجتمعات الغربية، حيث كانت هذه المجتمعات مسيطراً عليها من قبل وسائل الإعلام التقليدية بحيث لم يكن هنالك مجال للرأي الآخر، لكن الأمر تغيّر على امتداد العقدين الماضيين مع الثورة التقنية الهائلة وثورة الاتصالات على وجه التحديد؛ مما جعل العالم قرية صغيرة، وأصبح من الصعب على النخب الحاكمة السيطرة على توجهات الرأي العام بعد أن أصبح الإعلام الاجتماعي هو السائد بعيداً عن الأقنية الرسمية التقليدية. بعد كل هذا يمكن الحديث في الدول الغربية عن انقسام فيما يتعلق بالموقف من الصراع في الشرق الأوسط، وخصوصاً الحرب في قطاع غزة ما بين مؤيد ومعارض للتوجهات الرسمية. حالة الجدل هي سمة للمجتمعات الغربية أو هكذا يفترض في إطار منظومتها الديمقراطية، لكن الأمر تجاوز ذلك في الاحتجاجات الأخيرة لكي تنزل قوات الأمن لمحاولة فض هذه الاعتصامات والاحتجاجات بالقوة، وبالتالي قوات الأمن لم تعد حامية للمتظاهرين، بل أصبحت مدافعة عن التوجهات الأساسية للحكومات الغربية بما فيها الموقف المساند لإسرائيل؛ الذي يرفضه هؤلاء المحتجون. لقد تم سحل أساتذة الجامعات ورؤساء الأقسام على مرأى ومسمع من الإعلام الدولي لكي يقف العالم الغربي عارياً أمام قيمه وخطابه السياسي والأخلاقي. تخيّل معي لو أن هذا المشهد من التدخل العنيف حدث في دولة شرق أوسطية لبدأ الغرب بالنواح والندب على حرية الرأي وحرية التعبير، نعتقد بأن الصور القادمة من الجامعات الغربية لا تسقط صورة النظام السياسي والاجتماعي الغربي فقط بعيون أبناء منطقتنا أو شعوب العالم الأخرى بل تسقطها في عيون الغربيين أنفسهم.