من إجماعات أهل السنة التي تكررت في كل كتاباتهم من الأئمة الأربعة إلى الفقهاء المتأخرين: طاعة ولي الأمر وتحريم الخروج عليه وعدم منازعته على السلطة. من السهل علينا إلاكثار من الاستشهادات في الموضوع بما لا يحتاج لبيان وتفصيل. إلا أن لجماعات الإسلام السياسي رأياً مخالفاً، فتتبنى الثورة على الأنظمة الحاكمة، والتمرُّد على الدول باسم الدفاع عن الدين وإقامته، ولا تتردد في نعت علماء الأمة الكبار وكتابها أصحاب المنابر بأنهم من «علماء السلطان» والمتملقين الذين لا يجوز اتباعهم! الحقيقة أن علماء الأمة وكتابها أدركوا أن المسألة هنا لا تتعلق بشخص حاكم بعينه، وإن كان الحاكم يجسد -عملياً- الدولة، وإنما الموضوع -بحسب العبارات المعاصرة- هو شرعية الدولة والولاء لها، اتقاءً للفتنة وضياع الأمة وانهيار الدين والمجتمع. فعندما يكرر علماء السُّنة في كتب الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية أن الإمامة وضعت لحراسة الدين وسياسة الدنيا (حسب عبارة الماوردي الشهيرة) فإنهم يعنون أن لا قوام للدين ولا للأمة من دون سلطة حاكمة تضبط الناس وتنشر الأمن وتدافع عن الحوزة. لذا فإن أهل السنة اتفقوا على أن ولاية الحكم ليست من أمور العقيدة بل من فروع الشريعة، وهي ليست للفقيه وإنما لمن تنعقد له الغلبة والقوة، فيكون قادراً على إدارة الشأن العام. لنقرأ لحجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي قوله: «وإذا كانت الإمامة تقوم بالشوكة، وإنما تقوى الشوكة بالمظاهرة والمناصرة والكثرة في الأتباع والأشياع وتناصر أهل الاتفاق والاجتماع، فهذا أقوى مسلك من مسالك الترجيح». إن ما يعنيه (أبو حامد) هنا هو ما عبر عنه (ابن خلدون) بمعادلة العصبية والقوة التي هي أساس الملك، وهو نفسه التصور الذي انطلق منه فيلسوف الحداثة السياسية الكبير توماس هوبز في فكرته حول السيادة المطلقة للدولة. الفرق الوحيد بين التصورين هو أن الدولة الحديثة مهما كانت طبيعة نظامها السياسي لها طابع مؤسسي شمولي بحيث تقوم على التمييز بين دوائر السلطة المختلفة (نظرية السلطات الثلاث لدى القانونيين)، في حين كانت الدولة التقليدية أحادية البناء المؤسسي. ومن الواضح أن حركات الإسلام السياسي لها علاقة متوترة بالدولة الوطنية؛ التي هي اليوم الشكل الوحيد الممكن من النظام السياسي، وهي وحدها التي يتمحض لها الولاء المطلق. إن هذه الحركات لا تواجه أنظمة بعينها، لكنها تحارب الدولة نفسها، وتخرج على طاعتها عبر رموزها الحاكمة، بما يؤدي إلى تفكيك بُنية المجتمع ونسف الأمن والاستقرار. بعض هذه الحركات لا يزال يحنُّ إلى دولة الخلافة؛ التي هي حالة تاريخية متجاوزة، بل إن المفكر المغربي عبدالله العروي بيَّن في كتابه (مفهوم الدولة) أن التاريخ الإسلامي عرف نماذج عديدة في عصوره الوسيطة تختلف عن نموذج الخلافة الذي بقي حالة مثالية غير قابلة للتحقق بشهادة الفقهاء أنفسهم؛ ومن هذه الدول الدولة السلطانية المستقلة عن الخلافة الشكلية، ودولة التنظيمات التي برزت في العصر العثماني. خلاصة الأمر، أن الإسلام السُّني وكل مسلم سني يدافع عن الولاء للدولة، وعن شرعيتها في مواجهة حركات التمرد والعصيان التي تقود للفتنة والفوضى.