وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مترو الرياض    إن لم تكن معي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما بين رشيد رضا وحسين نائيني . الفقيه المصلح في مرحلة التحول من الدولة السلطانية الى الدولة الدستورية
نشر في الحياة يوم 15 - 02 - 2001

تقع عناصر موضوع "وعي حالة الاستبداد والحل الدستوري في الدولة السلطانية" في مرحلة التحولات الكبرى التي شهدتها المجتمعات الإسلامية عموماً، في فترة التحول من صيغة الدولة السلطانية في التاريخ الإسلامي الى صيغة الدولة المحدثة أو الحادثة على حد تعبير ابن خلدون.
واستخدام صيغة الدولة السلطانية للتعبير عن نموذج الحكم الذي آلت اليه التجربة التاريخية الإسلامية في العهدين البويهي والسلجوقي، وتحديداً في العهد السلجوقي، يعود الى ان الدولة آنذاك تشكلت من هيئات ومؤسسات تقاطعت فيها جملة من المظاهر والعوامل والمحددات:
أ - آل الدين عبر ممثليه الفقهاء والعلماء والكتّاب من الوعّاظ، الى الانضواء في لواء السياسة السلطانية، بصفة كتّاب أو قضاة أو وعّاظ أو مدرسين، ولا سيما بعد تأسيس نظام الجامعات والمدارس وتوسعه، الأمر الذي مكّن الدولة بشخص سلطانها من توظيف الدين في العلاقة بالرعية توظيفاً ايديولوجياً ومؤسسياً.
ب - منذ كتابات الماوردي، حين دخل الفقه ميدان السياسة، راج ما عُرِف في التراث بالآداب السلطانية. وهي جملة تلك الأدبيات الواسعة التي تراوح في موضوعها بين التعريف بالمناصب والوظائف السياسية والإدارية في الدولة، وبين النصح والإرشاد أو الوعظ أو التنبيه أحياناً في شؤون سياسة الملك. ويلاحظ الدارسون ان مرجعية هذا النمط من الكتابات، هي مرجعية فارسية تتمثل بشكل رئيسي في عهد "أردشير" الذي ينصح صراحة السلطان باستثمار فعالية الدين ورجاله في المجتمع، لكي لا تنشأ "رياسات مستترات" على حد تعبير صاحب "العهد" ويقصد محاولات الانقلاب باسم الدين.
ج - مثل هذه العلاقة التي تكرّست في الدولة السلطانية على امتداد مراحلها وأسرها المختلفة ما لبثت ان تمأسست تدريجاً، وبلغ هذا التمأسس حداً لافتاً في تجربتين متأخرتين: في الدولة العثمانية والدولة الصفوية، وان اختلف مذهب كل من الدولتين.
في هذا الإطار المؤسس، شكلت "مشيخة الإسلام" عبر هياكلها وبرامجها ومناهجها المتعددة والكثيرة مؤسسة كبرى وعامة، كان لها دورها ووظائفها في مجالين متكاملين:
- تقاسم السلطة مع الهيئة السلطانية، ولكن في اطار ميزان قوى غلبت فيه كفة السلطان وسياساته. ويتلخص دور هذا المجال في اضفاء الشرعية الدينية على الفرمانات السلطانية، أي السياسات السلطانية.
- ادارة المجتمع وذلك في نسق من العلاقات نظام سيستام تُمارس فيه الهيئات الدينية الرسمية بدءاً من امامة المسجد الى المفتي الى القاضي الى شيخ الإسلام... وظائف دينية وثقافية واجتماعية، بل واقتصادية، ولا سيما عبر مؤسسة الوقف التي توزعت بين الهيئات الدينية العلماء من ذوي التقليد الفقهي وبين مشايخ الطرق من ذوي التقليد الصوفي. ويذكر ان الفريقين - وقد يتداخلان - لهما امتدادهما في المجتمع ونفوذهما الشعبي في الحارات والأحياء والقرى.
ويمكن الاستنتاج ان المؤسسة الدينية المنتظمة في أطر الدولة السلطانية أخضعت لحالة من الاستتباع الوظائفي للسلطان القائم. بل يمكن القول ان الاستقواء بالدعوة الدينية التي سبق لابن خلدون ان تحدث عنها بتأثير "عهد أردشير" أو بتأثير التجربة التاريخية أضحى في نهاية عهود الدولة السلطانية في العالم الإسلامي، حال استتباع وطاعة طرفاها: السلطان والرعية، وبينهما مؤسسة دينية متشعبة الفروع والأدوار والوظائف تعمل لتمكين هذه العلاقة في النظام العام.
ونجد وصفاً معبراً عن سمات هذه العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكما أضحت عليه في نهاية القرن التاسع عشر، في كتاب الكواكبي "طبائع الاستبداد"، اذ ينقل لنا المؤلف صوراً معبرة عن أخلاقيات ومسلكيات المستبِد والمستبَد، ويصوغها بمصطلحات لافتة وجريئة أبرزها صوغه لمصطلح "الاستبداد الديني" واعتباره هذا الأخير مدخلاً "للاستبداد السياسي".
كتاب الكواكبي، الذي صدر في القاهرة العام 1900، يشكل حالة كشف أو اكتشاف لنموذج من الحكم السلطاني الذي كانت تمثله آنذاك الدولة العثمانية، انه حال تفكيك لبنية العلاقة التي آلت اليها أوضاع الدولة السلطانية في علاقتها بمجتمعها ورعاياها من دون ان يدخل المؤلف بالتسميات المباشرة. لكن معاصريه آنذاك، ودارسي مرحلته اليوم يعرفون عما كان يتحدث الكواكبي وقد خرج من الإدارة العثمانية في ولاية حلب محبطاً ويائساً وكانت له تجربته المرّة مع شيخ الإسلام أبي الهدى الصيادي في عهد السلطان عبدالحميد.
كثيرة هي العوامل التي أدت الى هذا الانكشاف في بنية الدولة السلطانية، وانفضاح العلاقة الوظائفية بين الهيئة الحاكمة والمؤسسة الدينية التي مهّدت لنوع من الوعي بالحريات العامة. نذكر منها:
- وعي نخب جديدة في المجتمعات الإسلامية وبفعل الاطلاع أو التماس أو التعلم، لمفارقة مثيرة: حال الاستبداد الفردي في الداخل، وحال الحريات في أوروبا الوعي الدستوري عبر الإدراك المقارن.
- ادراك المدى الذي وصل اليه تقهقهر الدولة السلطانية، في أهم عنصر من عناصر شرعيتها التاريخية الموروثة عن نظام الخلافة: حماية دار الإسلام والدفاع عن بيضة الإسلام والمسلمين. فطيلة القرن التاسع عشر، كانت تتساقط ثغور العالم الإسلامي وتخترق حدوده وجغرافيته من كل صوب.
- بداية بروز تناقضات بين رموز المؤسسة الدينية الرسمية المفتي والقاضي وبين طلبة علوم دينية أخذوا يقرأون كتب الحديث مباشرة من دون العودة الى كتب "الأحكام"، فاتهموا "بالاجتهاد". ومن ذلك الحادثة المعروفة في دمشق "بحادثة المجتهدين" في العام 1895 التي يرويها أحد علماء دمشق وهو جمال الدين القاسمي، وكان أحد أبطالها. ومن المعروف ان عملية الرد على الاستبداد الفردي صيغت بالمطالبة بالدستور المشروطة التي تقيد السلطان بأحكام ومجلس تمثيلي منتخب عن الأمة. ويذكر أيضاً ان أول تجربة دستورية في العالم الإسلامي كانت تجربة "اعلان الدستور" في عهد السلطان عبدالحميد الثاني في العام 1876 التي فشلت بعد أقل من سنتين ليعود الدستور محمولاً على كتف انقلاب عسكري في العام 1908، الانقلاب الدستوري.
وعلى موازاة الانقلاب العثماني، بل قبله، تقوم انتفاضة شعبية، في ايران، في العام 1906 وتستمر حتى 1911 بين قياداتها وكوادرها الأساسية علماء شباب، لكنهم يستظلون بمرجع تقليد كبير مقيم في النجف هو الملاّ كاظم الخرساني الذي أفتى بشرعية اقامة الدستور ووجوبه منعاً للاستبداد الفردي. يقول: "ونحن بحسب اطلاعنا على البلاد التي تطبق فيها الدساتير، نعلم انها تدار وفق قوانين عادلة، ونحن نقول بكل صراحة، ليس في المشروطية اية نقطة تخالف الدين الإسلامي...".
كان المسار الذي شهدته الحركة الإصلاحية الدستورية في ايران شبيهاً بمسار الحركة التي شهدتها تركيا العثمانية وولاياتها العربية، لناحية البدء بالإصلاحات والتنظيمات من فوق، وصولاً الى طرح النخب الجديدة لمسألة اقامة الدستور وانتخاب ممثلين عن الأمة، مع فارق واحد هو الاختلاف في مواقع العلماء حيال الدولة السلطانية في كل من تركيا وولاياتها العربية من جهة وايران من جهة ثانية.
في تركيا العثمانية وامتدادها العربي... كان ثمة انتظام للمؤسسة الدينية مشيخة الإسلام في بنية الدولة السلطانية ومنطقها وأشكال علاقتها الحصرية بالمجتمع والرعية. فكان من الطبيعي ان يخرج العلماء الإصلاحيون، ومن بينهم المطالبون بالدستور من خارج هذه المؤسسة، أو من خلال الانقلاب أو الخروج عليها: مثال: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا.
في ايران القاجارية... كانت هناك مؤسسة دينية شبيهة بالمؤسسة العثمانية، قامت منذ أيام الصفويين وكانت لها مراتبها ومناصبها وامتداداتها الرسمية في المجتمع، الا ان صيغة ما سمي "مراجع التقليد" في مذهب الشيعة الإمامية وانتظامهم التاريخي القديم في حوزات علمية مدارس مستقلة عن الدولة، أتاحت تعددية في الرأي والاجتهاد والموقف، وسمحت بدورها بقيام عدد من العلماء والمراجع بأدوار قيادية أو تحريضية في انتفاضاتٍ أو مطالبات لإصلاح شأن الدولة وسياساتها ومن أهم مراكز هذه الحوزات: قم والنجف. فقبل المعركة الدستورية كانت فتوى "تحريم التنباك" التي أصدرها المرجع محمد حسن الشيرازي من مركز اقامته في النجف وبناءً على طلب من جمال الدين الأفغاني، كما تقول الرواية التاريخية، ساهمت في اسقاط معاهدة امتياز شركة التنباك الانكليزية في العام 1890 - 1891 عهد الشاه ناصر الدين.
في هذا الخط من الاستقلالية كان لجيل لاحق من العلماء دورهم في قيادة الانتفاضة الدستورية في ايران بين 1906 و1911. وأنتجت أدبيات هذه المرحلة عملاً لافتاً كتبه أحد العلماء حسين نائيني بعنوان "تنبيه الأمة وتتريه الملة" صدر في معترك الصراع بين الفقهاء المؤيدين للدستور والفقهاء المؤيدين للشاه الصراع بين أهل المشروطة وأهل المستبدة. وصدرت الطبعة الأولى بالفارسية في العام 1909، ثم جددت طباعته في العام 1955 وترجمت فصول منه الى العربية في مجلة العرفان اللبنانية في العام 1930 بعنوان "الاستبدادية والديموقراطية".
كيف عالج هذان الفقيهان رشيد رضا وحسين نائيني المتزامنين والمعاصرين للحدث مسألة الدستور من زاوية الدعوة له اسلامياً؟
تستحضر لدى الفقيهين مرجعية واحدة هي مرجعية الشورى في الإسلام، باعتبارها أصلاً ولكن لم يستمر. أما التجربة التاريخية فهي في رأيهما "انحراف" عن هذا الأصل بسبب غلبة نزعهة الاستبداد لدى الحكام، وبسبب الغطاء الديني الذي وفره فقهاء. عند رشيد رضا هم "فقهاء الحشوية". وعند النائيني هم "علماء السوء". بل ان النائيني يتحدّث - وربما بتأثير من الكواكبي - عن شعبتين "متآلفتين" يقوم عليهما الاستبداد: شعبة الاستبداد الديني وشعبة الاستبداد السياسي.
والسؤال لماذا لم يذكر فقهاء الإصلاح الدستوري "الشورى" التي غيبت خلال قرون، بل ان الأدبيات الفقهية لم تلحظ لها باباً، وكما يلاحظ ذلك بحق محمد عابد الجابري؟ الجواب نجده عند رشيد رضا عندما طرح عليه قارئ مسلم "للمنار" في العام 1907 لماذا تتحدث عن "حكم دستوري" و"برلمان" ولدينا نحن المسلمين "الشورى"؟ يجيبه رشيد رضا بالآتي: "لا تقل أيها المسلم ان هذا الحكم من أصول ديننا فنحن قد استفدناه من الكتاب المبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين لا من معاشرة الأوروبيين، والوقوف على حال الغربيين، فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكّرت أنت وأمثالك بأن هذا من الإسلام ولكان أسبق الناس الى الدعوة الى اقامة هذا الركن علماء الدين في الاستانة وفي مصر ومراكش، وهم الذين لا يزال أكثرهم يؤيد حكومة الأفراد الاستبدادية ويعد من أكبر أعوانها ... انني لا انكر ان ديننا يفيدنا ذلك ... ومع هذا كله أقول اننا لولا اختلاطنا بالأوروبيين لما تنبهنا من حيث نحن أمة أو أمم الى هذا الأمر العظيم، وان كان صريحاً جلياً في القرآن الكريم".
إذاً، المنبه للشورى، هو منبه أوروبي، يكمن في النظام الديموقراطي البرلماني، الذي انتصر في أوروبا طوال القرن التاسع عشر، ولولاه لما حصل هذا التذكّر. هذه الشفافية في التعبير عن "التثاقف" في نص رشيد رضا، نجد مرادفاً لها عند النائيني عندما يرى ان "تحرر المل الأجنبية" جاء "اتباعاً للمبادئ الطبيعية واحاطة بالقوانين الإسلامية".
هكذا يجري لدى الفقهيين استعارات اصطلاحية من ثقافتين وتاريخين، للتعبير عن حاجات سياسية اصلاحية معاصرة واحدة: تقييد الحاكم الفرد بنصوص واشراك الأمة في الحكم. ليس المهم هنا مرجعية المصطلح، كما يرى الجابري اليوم، بل المهم في رأي الفقيه المصلح آنذاك الاستجابة للحاجة الإصلاحية، وتحقيق الهدف، والقيام بوظيفة ما يراد القيام به: مقاصد الشريعة والمصلحة.
هكذا يصبح "أهل الحل والعقد" في البيعة الاختيارية عند رشيد رضا برلماناً أو مجلساً تمثيلياً للأمة، أو صيغة لمشاركة الأمة في حكم نفسها على قاعدة الاجماع في مذهب أهل السنّة، وتصبح الصيغة التمثيلية عند النائيني، في "الجمعية العمومية، قوة بشرية عاصمة" تحلّ جزئياً محل القوة العاصمة التي يفترض ان تتمثل "بالإمام المعصوم" عند أهل الشيعة.
ووفقاً لهذين الاجتهادين اللذين يلتقيان في موقف سياسي واحد معاصر آنذاك لحدث كبير في ايران والدولة العثمانية الحدث الدستوري، يتراجع مفهوم الخليفة الواحد للعالم الإسلامي الذي تستّر به "سلطان الضرورة"، ويتقلص دور "نائب الإمام" في الدولة السلطانية الشيعية، كما يتراجع دور مشيخة الإسلام في إضفاء الشرعية على الحكم عند الطرفين، لتصبح "الجمعية التمثيلية" البرلمان ونصوص الدستور مصدراً للشرعية. مثل هذا الاجتهاد كان يعني منطقياً انفتاحاً على امكانات تحوّل كبير في مفهوم الدول وسيرورتها باتجاه تشكل الدولة الدستورية الحديثة.
اعاقة الانفتاح
لكن مفارقات كثيرة وكبيرة تداخلت فأعاقت هذا الانفتاح أو أخّرته:
- في الساحة التركية - العربية، أثارت وطأة الاحتلالات، وسياسات التجزئة لا سيما في المشرق العربي، وملابسات مسألة الخلافة والغائها، مواقف عكست نفسها في أدبيات الفقه والفقهاء، جعلت واحداً كرشيد رضا يغدو بدءاً من العام 1922 أكثر اهتماماً بمسألة الخلافة، من اهتمامه بمسألة الدستور والتمثيل الشعبي للأمة. غير انه لما كان يتعذّر أمر اجتماع المسلمين على خليفة، وكان رشيد رضا مدركاً لهذه الاستحالة كما نقرأ ذلك في "الخلافة والإمامة العظمى"، نراه يميل شيئاً فشيئاً الى الدعوة الى انشاء "حزب اصلاحي اسلامي". ولعلّ الفكرة بدأ يبشر بها منذ العام 1922، هي التي تلقفها لاحقاً حسن البنا، إذ يمكن أن نرى جسراً بين الرجلين، ولكن هذا الجسر يرينا أيضاً تحولاً في شخصية رشيد رضا وثقافته من "فقيه دستوري" منفتح على العالم إذا صحّ التعبير الى "داعية حزبي" ناقم على العالم، كما هي حال داعية اليوم.
- في الساحة الإيرانية، ما لبثت المعركة الفكرية الفقهية الدستورية التي خيضت في ساحة النضال من أجل تطبيق الدستور، ان خفت صوتها مع وفاة المرجع الكبير الذي احتضنها وهو الشيخ كاظم الخرساني في العام 1911. وجاءت ظروف الحرب العالمية لتعطل الجهود الدستورية ولتقحم البلاد في مشاريع الاقتسام والتقسيم، ولتدخلها في "حتمية" الانقلاب العسكري الديكتاتوري. بعدها وفي عهد الشاه البهلوي، تتقلّص المشاركة الفقهية في العمل السياسي، ويعتزل الفقيه في حوزته لفترة طويلة، قاصراً عمله على العبادات والمعاملات والنصح أحياناً. ومن جانب الشاه البهلوي تقتصر العلاقة مع العلماء على البروتوكولات والزيارات الشكلية والودية، مع التركيز على تحجيم دور الفقهاء من خلال سلسلة من القوانين المدنية. ويستمر هذا الوضع حتى انقلاب مصدّق في العام 1953، حين يستعيد بعض الفقهاء دورهم في العمل السياسي الوطني، وتستعاد أطروحات فقهاء المرحلة الدستورية فتعاد طباعة كتاب النائيني مثلاً.
لكن هذه الاستعادة تأخذ صيغة جديدة من الجدل الفقهي الذي يتوخى البحث عن موقع للفقيه في الدولة نفسها. ويأخذ هذا الجدل مع اشعاع دور "مراجع التقليد" في الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، منحى أصولياً في تفسير وشرح مفهوم "ولاية الفقيه" أو نائب الإمام: هل هذه الولاية عامة أم جزئية وما موقع "الفقيه الولي" في الدولة؟
إذا كان منطق الثورة وامتداده في الدولة بدايةً حسم الأمر لجانب "الولاية العامة" كما يفهمها ويشرحها مرشد الثورة الخميني فإن نخباً في المجتمع الإيراني وفقهاء شيعة عرباً انقسموا على الموضوع وما زالوا. وقد يكون الصراع اليوم بين ما سمي "بمحافظين" من جهة و"إصلاحيين" من جهة أخرى، هو وجه من أوجه تطوّر ذاك الجدل بين من يقول بولاية الفقيه صراحة وبين من لا يقول بها صراحة أو ضمناً، ولكن المرحلة اليوم تبقى أكثر تعقيداً. على ان فكرة النائيني، في تحبيذها قوة البرلمان، كقوة تمثيلية وعاصمة نسبياً عن الاستبداد في أول القرن، تبقى تحتل مركزاً مهماً في تطوير التفكير الفقهي الإصلاحي اليوم. إذ نقرأ اليوم لفقيه لبناني معاصر هو محمد مهدي شمس الدين صيغة تقول وتدعو "لولاية الأمة على نفسها" بديلاً عن القول "بولاية الفقيه".
توفي رشيد رضا في العام 1935، تاركاً إرثاً كبيراً من أدبيات الفقه السياسي التي رافقت كل انعطافات مراحل التاريخ العربي الإسلامي وتناقضاتها. لكن أدبياته الأخيرة ما لبثت بسبب توالي مآزق الرجل واحباطاته كنتيجة لاحباطات الأمة وأزماتها ان أسست لفكرة "الحزب الإسلامي" وربما تكون حركة الإخوان المسلمين ثمرة هذه الفكرة.
وتوفي حسين نائيني في العام 1936، ولم يكتب في الفقه السياسي، إلا قليلاً، لكنه ترك إشكالاً كبيراً لا يزال في الفكر السياسي الإسلامي الشيعي حقل نقاش: ولاية الفقيه أم ولاية الأمة؟ وكيف التوفيق بينهما. ولعل ما يجري في ايران اليوم بين اصلاحيين ومحافظين، هو وجه من أوجه هذا الإشكال.
* أستاذ جامعي، وباحث في التاريخ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.