يحفظ العالم أسماء رموز وعلماء شقوا طرقهم في إمتاع البشرية بمخرجات ابتكاراتهم وأبحاثهم في شتى أوعية المعرفة.. وهم من ذوي الهمم في معانقة للمستقبل وعدم الالتفات للوراء.. مبحرين عبر أمواج الطموحات العالية بهممٍ تلامس الجبال الشامخات. إن لغة الوصول للقمة كانت أيقونة إصرارٍ وعزيمة صنعتها الباحثة الكفيفة بنين حسين البراهيم من قسم الاتصال والإعلام بكلية الآداب بجامعة الملك فيصل (كفو)، عندما عكفت على مناقشة رسالة الماجستير لها تحت عنوان: استخدام شبكات التواصل الاجتماعي وعلاقته بتعزيز الهوية الوطنية لدى طلبة الجامعات السعودية «دراسة مسحية على المنطقة الشرقية»؛ ولم تقف إعاقة فقد البصر حائلاً بينها وبين معانقة النجاح والوصول إلى القمة؛ حينما قدمت بحثاً من أفضل البحوث التي ناقشتها على مدار مسيرتي العلمية في النقاشات العلمية والتي كادت أن تلامس الرقم 50 ما بين رسالة ماجستير وأطروحة دكتوراه. عند هذه المحطة، وقفت مع ذاكرتي التاريخية لاستحضار بعض عباقرة العلماء الذين فقدوا الرؤية البصرية، وتوقدت عندهم البصيرة والعزيمة لبلوغ أهدافهم التي عجز بعض أصحاب البصر عن بلوغها؛ وهم يرون بأبصارهم حتى في عتمة الليل البهيم. فقد أنزل الله سورة كاملة تحكي قصة الأعمى عبد الله بن مكتوم مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي خلد التاريخ حياته المليئة بالمواقف الجسام حتى ختم سيرته وهو يحمل لواء المسلمين يوم القادسية وهو ضرير، وكان يقول «ادفعوا لي اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفرّ وأقيموني بين الصفين»، فجسد البطولة الكاملة. حينما وصف الشاعر بشار بن برد المعركة عجز عن وصفها من شهدها، وقد تعجب العديد من النقاد من دقة الوصف البصري؛ فقال: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا... وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه فرسم بشار بن برد صورة بصرية بشعره لو جسدت بتقنية ثلاثية الأبعاد (3D) لرسمت صورة تدهش النّاظرين؛ بل ويمكن أن تدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية. كما أنّ طه حسين صعد على قمة الأدب العربي حتى حاز على عمادته فأطلقوا عليه عميد الأدب العربي وهو يومئذ كفيف، وظلت أفكاره مثار جدل بين النقاد في الأدب وغيره، وبلغ في مراقي التوظيف مديرًا لجامعة الإسكندرية، ثم وزيرًا للمعارف. ومن المعاصرين الذين ذاع صيتهم الشاعر اليمني عبدالله البردوني، الذي قال عبارته المشهورة «استهانوا بي في المدرسة لأنني ضرير فرجعت أحفظهم»، وقد نال البردوني العديد من الجوائز العالمية والإقليمية لتفوقه في الشعر والأدب والنقد. وحينما نذكر من فقدوا أبصارهم تتداعى إلينا ذكرى أبو العلاء المعري الذي كان شاعراً ومفكراً وفيلسوفاً وهذه الثلاث لا تجتمع إلا لدى قلة من العظماء، وخلدت لنا كتب السِّير والتراجم أقوالاً شتى عن حياته بين التشاؤم والتفاؤل. والتاريخ والحاضر يشهدان على عظماء فقدوا أبصارهم وساهموا بعلمهم وأفكارهم في تقدّم الإنسانية ونقشوا على جدار الزمن أفكاراً اقتفينا أثرها حتى يومنا. وأختم كلماتي عن طالبتي بنين البراهيم التي أتوقع أن تكون يوماً من الشخصيات البارزة في الإعلام الدولي في زمن تقاربت فيه المسافات وغابت فيه الحدود وتلاقت فيه الأفكار والإبداعات.