عندما تكون قصص الحب ايقونة وفاء.. نستحضر صياغتها من الزمن الجميل.. لنقف حائرين أمام شموخها.. لنتعلم من فصولها في هذا الزمن الذي سادت فيه لغة المصالح والتنكر للجميل. ما زلت استذكر جدتي عندما أمسكت بيد جدي وهو مسجى على سرير المستشفى في آخر أيامه؛ وكانت تتبادل معه أطراف الحديث حول الأيام الخوالي التي عاشاها سوياً في الريف السوداني؛ حتى ينسى أو يتناسى آلام المرض وقساوة المكوث على الفراش الأبيض.. مما منعه الأكل والشرب.. حتى غدا يتناول غذاءه بأنبوب التغذية. وعندما يحاول نزع هذا الأنبوب عندما يحك أنفه.. تقول له «لا تلمس الأنبوب» خوفاً على حياته، وكانت تقول هذه الكلمات بصوت ضعيف حزين خوفاً من مغادرته لغرفته إلى مثواه الأخير، وحينما نظر إليها جدي قال لها: هل تتذكري يا أم سعد حينما خطبتك من أبيك؟! فتبسمت وكأنّها تسترجع تلك اللحظات السعيدة في حياتها، وتلك الليلة التي لم تنم فيها لشدة فرحتها، فقالت له: والله يا أبو سعد لم أنم تلك الليلة!، وحينما أسفر الصبح كنت أول من غادر فراشه لإعداد الشاهي والقهوة بعد صلاة الفجر حتى تعجب أبي من شدة نشاطي.. فمازحني أبي قائلا لي: يا عروستنا ضبطي الشاهي والقهوة؛ فأجبته أنّهما على الطاولة. كانت تلك اللحظات شديدة القسوة على جدي، ودموع جدتي تنهال على وجنتيها الشاحبتين كأنّها سيل يسير عبر منعرجات الجبال والوديان، فمسح بيده بعضاً منها، وقال لها: لا تبكي «بكره سأخرج من المستشفى إلى قريتنا ونذبح الذبائح ونقابل جميع الأهل والأصدقاء».. كان يقول هذه الكلمات وهو يعلم أنّه في الرّمق الأخير من عمره.. وما إن سمعت كلماته حتى بدأ صوت نحيبها يرتفع ولكنّه نحيبٌ يخرج من بين الضلوع والأحشاء لأنّها تعلم أنّه لن يظل طويلاً في دنياها. مات جدي بعد لحظات من تلك الكلمات، وحينما أخرج أنفاسه الأخيرة كانت جدتي بجانبه تريد أن تناوله كوباً من الماء ظناً منها أنّه عطشان ونسيت أنّه يتغذى بأنبوب التغذية، وحينما لفظ آخر أنفاسه وهي ممسكة بكوب الماء تهاوت على الأرض وسبقها الكوب إلى الأرض بصورة دراماتيكية.. ومعها تسترجع شريط الذكريات أمام عينيها منذ خطبتها وجميع تفاصيل أيامها الحلوة والمرة معه. كل هذه الذّكريات تسترجعها وهي تقطع المسافة بتهاوي جسدها على الأرض كأنّها ألف عام تمر أمام عينيها، ومعه أحسّت أنّ روحها تفارق جسدها لتلحق بزوجها، وتم دفنهما بجوار بعضهما.. مات جدي ولم تمت قصته.