** في الماضي البعيد، في زمن غابر ومؤلم، كنتُ أبحثُ عن المجهول، أتخفّى عن عيون الأقارب والأباعد، أسلكُ أزقة المدينة العتيقة؛ حتى إذا ما بلغتُ ساحة الفناء ناديتك بصوت منخفض -هكذا علّموني في الدار- لا تتردد -يا صديقي- في الإجابة حتى وإن كنت مستلقيًا على فراشك، تقول "يا زين" أنا قادم!، تمسك بيدي المرتعشة، وتضع يدًا حانية منك على جبهة، تتساقط منها ذرات من عرق الهلع، أو الذعر، أو كليهما -معًا-. تجوب معي أطراف المدينة، تتسلّق -معي- الجبال، وتهبط برفقتي بطون الأودية، وعندما يداعب الكَرَى تلك الأجفان المضنية كنت -يا أبتاه- تخلع عمامتك، وتفرش في الترب سجادتك؛ لأتوسدهما بعد طول عناء، وكثير نحيب، وتظل مستيقظًا حتى أفيق من تلك الهجعة، وتقع عيني -عليك- مصليًا، أو ذاكرًا ومستغفرًا، وللرب مبتهلاً. ** تتنبّه لذلك الإعياء الذي يلف جسدًا نحيلاً، فتمسك بيدي -مرة أخرى- حتى لا أقع على الأرض، تداوي بكلماتك العفوية والطيّبة ما تركته قسوة الحياة من ندوب في نفس فُطرت على الصفاء، وجُبلت على شيء من السذاجة، ومرّت الأيام -يا صديقي- وفي كل لحظة من لحظات الحياة أشعر أنني بحاجة إلى تلك النفس الطيبة، والقلب الرقيق، واليد الحانية. ** اليوم -يا صديقي- يزداد وجيب القلب، تتسارع الأنفاس وكأنها تسابق الزمن الصعب، وتترك القسوة آثارها على العين فتعشى، وعلى الجسد فتنهد أطرافه، تستغيث من نفس حاقدة، وأخرى جحود. ** اليوم -يا أبتاه- تهجر النفس كل ما عرفت من أُنس، فالأُنس والقسوة (نقيضان)، والحب والحقد (ضدان)، والجمال والقبح -في ظل واحد- (لا يجتمعان). ** اليوم -يا صديقي- يرن صوت الهاتف، فأترك دقاته تذهب صدى يتردد في أعماق النفس التي تقرح منها كل شيء، هل -يا أبتاه- بقادر على أن أرى وجوهًا نضرة -كنّا- نجلس معها، أو نسامرها بين الصُّفة والحارة؟؟ وترى كيف تلاشى الصوت الندي على ضفاف "العينية" وفي ساحة "باب السلام"؟؟ سوف أمسِك بيدك -يا صديقي- لتمر بي على أجداث في "الربوة" أضحيتُ أغبط ذرات تُرب تبطنته في هدوء وسلام وإيمان.