الخدمة العسكرية والتجارة ولد إسماعيل خليل الرصاصي بمدينة القدس في 28 فبراير 1902، وبها نشأ وترعرع وتلقى مبادئ القراءة في كتاب داخل مسجد سعد وسعيد بالقرب من الشيخ جراح بالقدس. ثم التحق بمدرسة روضة المعارف الأهلية/الحكومية، وتخرج منها حاصلاً على الشهادة الابتدائية. بعدها التحق هو وأخوه يعقوب بالمدرسة السلطانية الحكومية الثانوية التي أنشأها الأتراك، لكن كان من رأي والده أن يلتحقا بدار المعلمين التي افتتحت هي الأخرى في العهد التركي. وبعد أن درس الرصاصي وأخوه هناك لمدة سنتين اندلعت الحرب العالمية الأولى فأغلقت الدار وتم استدعاؤه للجندية. غير أن تقهقر الأتراك في الحرب واحتلال الإنجليز لفلسطين سارع في تحريره من عبء الخدمة العسكرية، ليقرر الرجل تجربة حظه في العمل التجاري مع شخص يدعى راشد الحداد، من خلال دكان صغير في القدس برأسمال قدمته له والدته، لكن الدكان تعرض للسرقة ففشل المشروع، الأمر الذي دفعه للعودة إلى مقاعد الدراسة عبر الالتحاق بكلية دار المعلمين الجديدة، التي افتتحها الإنجليز خارج سور القدس بطاقم تدريس مصري سنة 1916، بعد دخولهم فلسطين ووضعوا على رأسها خليل طوطح الذي خلفه خليل السكاكيني. وفي عام 1919 تخرج الرصاصي من كليته فطلب في العام التالي أن يعين مدرساً في بئر السبع، حيث كان لعائلته بعض الأملاك، وعلى مدى السنوات الأربع التالية تنقل كمدرس وكمدير مدرسة من بئر السبع إلى غزة والمجدل واللد. الذهاب إلى مسقط المنعطف الأهم في حياته حدث في عام 1927، حينما اختير للذهاب إلى مسقط للعمل في المجال التربوي. وبالفعل وصل الرصاصي إلى مسقط في سنة 1928 في عهد السلطان تيمور بن فيصل (حكم عمانومسقط من 1913 وحتى 1932)، بعد رحلة شاقة بدأت من القدس إلى حيفا بالقطار ومن هناك إلى دمشق ثم بالسيارات عبر الصحاري القفراء الباردة إلى بغداد ومن الأخيرة براً إلى ميناء البصرة ومن البصرة بباخرة متجهة إلى الهند عبر مسقط التي وصلها بعد ستة أيام، وسط البحار الهائجة ليجد في استقباله مبعوثاً من طرف الحكومة العمانية قاده إلى بيت مخصص له ولزملائه، ثم ليبدأ مسيرته الطويلة في خدمة سلاطين عمان. المدرسة السلطانية الأولى كانت الوظيفة الأولى التي أنيطت به هو تأسيس وإدارة المدرسة السلطانية الأولى بمدينة مسقط تحت إشراف الحكومة. ويروي الرصاصي بنفسه في مذكراته التي كتبها بخط يده، أنه شهد افتتاح المدرسة في حفل حضره السلطان تيمور بن فيصل وولي عهده السيد سعيد بن تيمور، وأنه اشترط وقت حلوله في مسقط أن تكون مدة عمله سنة واحدة قابلة للتجديد. إذ يبدو أنه كان متردداً وقتها ولا يدري إنْ كان المقام سيطيب له في عمان أم لا. كما يخبرنا أنه قدم استقالته من وظيفته التربوية إلى ولي العهد/ رئيس الوزراء السيد سعيد بن تيمور في 28 فبراير 1930، ثم بررها لسكرتير الأخير السيد هلال بن بدر البوسعيدي، حينما سأله عن الأسباب باستيائه من إهمال المشرف على المدرسة لجهة القيام بمسؤولياته، وأنه سحب الاستقالة في الشهر التالي بطلب شخصي من السيد هلال، بعد أن أكد له الأخير أن أي أمر يتعلق بالمدرسة يمكن مراجعته فيه مباشرة. والحقيقة أن المقام طاب للرجل في عمان، خصوصاً بعد أن شعر باحترام وتقدير كبار المسؤولين له لجهوده في تأسيس وإدارة أولى مدارس البلاد، ثم نجاحه في تأسيس أول فرقة كشفية مدرسية، إذ حرصت حكومة السلطان على دعوته لحضور مختلف المناسبات الرسمية مع علية القوم، مثل دعوته لحضور حفل افتتاح أول طريق للسيارات بين مدينتي مسقط ومطرح في ديسمبر 1929، بل تعدى الأمر إلى اختيار السلطان تيمور له سنة 1930، لمرافقة جلالته مع عائلته في رحلته إلى بلدة خصب التابعة اليوم لمحافظة مسندم المطلة على مضيق هرمز. وفي أبريل من عام 1930، حصل الرصاصي على أول إجازة له منذ وصوله إلى مسقط، فسافر من مسقط إلى القدس عن طريق البحرينودمشقوبيروت وحيفا على التوالي. السفر مع السلطان على أن بروز الرصاصي وتعدد أدواره ومسؤولياته في عمان لم يبدأ إلا بعد تنازل السلطان تيمور عن الحكم لابنه وولي عهده السيد سعيد بن تيمور سنة 1932، ففي عهد الأخير الذي استمر مذاك وحتى عام 1970، قرَّبه السلطان وجعله ضمن رجالاته ومساعديه ومستشاريه الثقات، ربما تأسيساً على علاقة شخصية ربطتهما في عهد والده. وبعبارة أخرى كانت الفترة من 1932 إلى 1970 من أكثر الفترات زخماً وحراكاً اجتماعياً وإدارياً وسياسياً للرصاصي، فبالرجوع إلى ما تبقى من أوراقه الخاصة ومدوناته التي تمكن ولده إياد من الحفاظ عليها، بعد أن فقد الكثير منها إثر تعرض منزل العائلة في بيروت للدمار جراء العدوان الإسرائيلي على لبنان سنة 1982، نجد الرصاصي يخبرنا أنه كان يقضي إجازته في كراتشي وقت تنصيب السلطان الجديد رسمياً في يونيو 1932، فوصلته رسالة من مستشار المالية البريطاني الكابتن أولبن، يقول فيها، إن حكومة السلطان قررت إغلاق المدرسة السلطانية بسبب الأزمة المالية وإن خدمته ستنتهي في آخر سبتمبر 1932. ولهذا عاد الرصاصي إلى مسقط في أكتوبر لتصفية حوائجه وعلاقاته استعداداً لمغادرة عمان نهائياً، لولا أن صديقه الشيخ الزبير بن علي، ناظر العدلية آنذاك، أشار عليه بالتريث وعدم الاستعجال، مفصحاً له عن رغبة السلطان الجديد في مقابلته شخصياً. ما حدث بعد ذلك هو أن الرصاصي استمع إلى نصيحة صديقه وأجل فكرة الرحيل، وحينما قابله سعيد بن تيمور لأول مرة كسلطان للبلاد، طلب منه البقاء لتدريس أخيه السيد فهر بن تيمور، كما طلب منه السفر بمعيته إلى كراتشي. كتب الرصاصي في هذا السياق: «قال لي السلطان أريدك أن تسافر معنا إلى كراتشي ونقضي مدة هناك ثم تعود معنا، فقضينا شهراً واحداً ورجعنا». بعد ذلك تعددت رحلات الرجل بمعية السلطان، فرافقه إلى الباطنة على ظهور الجمال قبل أن تدخل السيارات إلى عمان، فكانت تلك هي المرة الأولى التي يمتطي فيها ظهر جمل. كما رافقه لاحقاً في رحلة طويلة إلى إقليم ظفار امتدت إلى 17 شهراً، كلفه خلالها بمهمة تأسيس مدرسة هناك للمرة الأولى. الوسام السلطاني وهكذا، نجد أن مكانته راحت تتعزز يوماً بعد يوم، بدليل أنه اختير ليكون ضمن 11 شخصية تم تكريمها ومنحها الوسام السلطاني في يونيو 1933، في احتفالات الذكرى الأولى لتولي سعيد بن تيمور مقاليد الحكم. ثم بدليل مرافقته للسلطان إلى بومباي سنة 1935، حيث يقول الرصاصي، إن السلطان فاتحه في رحلة العودة إلى مسقط بتولي منصب رئيس المحكمة العدلية التي يرجع تاريخ إنشائها إلى عام 1919، علماً بأنه تولى الرئاسة فعلاً خلفاً للشيخ الزبير بن علي، بعد تعيين الأخير ناظراً للعدلية، فقام بتجديد مبناها وتحديث قوانينها، واستمر كذلك إلى حين إلغائها في أواخر عام 1939. ويقول الشيخ حمود بن سالم السيابي، في كتابه «بروة استدعاء لمطرح»، إن السلطان وضع الرصاصي على رأس المحكمة لأنه كان إدارياً جيداً ويجيد الإنجليزية، حيث إن المحكمة كانت تستقبل قضايا أطرافها من الأجانب، علاوة على مالاسبق، رافق الرصاصي السلطان سعيد بن تيمور مجدداً إلى الهند وكشمير في يناير 1937، ناهيك عن اختيار السلطان له لمرافقة أول بعثة تعليمية عمانية ذاهبة إلى الخارج، وكانت وجهتها بغداد، وكان من ضمن طلابها السيد فهر بن تيمور، والسيد ثويني بن شهاب، والأديب (لاحقاً) عبدالله محمد الطائي، وحفيظ الغساني، وحسن محمد الجمالي. مسؤوليات متتالية في الفصل الثالث من كتاب «الوالي إسماعيل»، يتحدث المؤلف استناداً إلى مذكرات وأوراق الرصاصي، عن جملة من الأحداث التي كان الرجل شاهداً عليها وعدداً آخر من المسؤوليات التي أنيطت به، منها: حضوره افتتاح المدرسة السعيدية بمسقط عام 1936، وخروجه إلى الباطنة سنة 1940 للتفتيش على الولايات بأمر من السلطان، وخسارته لرئاسة المحكمة العدلية بعد حلها من أجل العودة إلى النظام القضائي الشرعي السابق، وتعويضه بمنصب والي مطرح سنة 1939، وولادة السلطان قابوس في نوفمبر 1940، وتعيينه مفتشاً على ولايات الباطنة عام 1941، وتعيينه رئيساً لولاة الباطنة في عام 1944، والشروع في التنقيب عن النفط في ظفار عام 1953، وسفره مع السلطان سعيد بن تيمور إلى المملكة العراقية عام 1955، حيث حضر لقاء السلطان برئيس الحكومة العراقية آنذاك المرحوم نوري باشا السعيد، ثم سفره مع السلطان في العام ذاته إلى بريطانيا وأوروبا، وغيرها من الأحداث. كما يتضمن الفصل تواريخ لأحداث خاصة في حياة الرصاصي مثل: ولادة ابنته إيناس وابنه إياد بمطرح في عامي 1947 و1950 على التوالي، ووفاة والده خليل الرصاصي في مطرح سنة 1954. وإبان توليه منصب والي مطرح، وكدليل إضافي على مدى ثقة ولاة الأمر فيه، سمح له بارتداء العمامة الصحارية، فكان من بين القلائل الذين سمح لهم بذلك من غير أفراد الأسرة البوسعيدية الحاكمة، كما أسندت إليه في عقد الستينات مسؤوليات إضافية أخرى إلى جانب وظيفته، فمثلاً تم تعيينه ناظراً (وزيراً) للمعارف، وبتلك الصفة ساهم في إنشاء أول مدرسة للبنات. .. مواكباً تطورات السلطنة انتشر الفلسطينيون في مختلف الأقطار العربية قبل وبعد نكبة 1948، واتجه الكثير منهم إلى دول الخليج العربي تباعاً للإقامة والعمل في مختلف المجالات وعلى رأسها المجال التربوي. وعلى حين جذبت السعودية والكويت وقطر العدد الأكبر، فإن سلطنة عمان لم تجذب سوى قلة قليلة منهم بحكم أوضاعها الداخلية الصعبة وقلة مواردها وعزلتها عن العالم حتى عام 1970. وكان أول فلسطيني يفد إلى عمان للعمل هو ابن القدس إسماعيل الرصاصي، الذي سنخصص هذا المبحث للحديث عن حكايته الشيقة المتقاطعة مع فصول من التاريخ العماني المعاصر، خصوصاً أنه تمكن سريعاً من الصعود في أروقة الدولة فانتقل من مدرس إلى مدير مدرسة فإلى وال ثم وزير فسفير ومناصب عديدة أخرى، معاصراً عهود ثلاثة من سلاطين عمان، ومواكباً جل التطورات السياسية والاجتماعية التي شهدتها السلطنة. ومن محاسن الصدف، أن كتاباً موثقاً عن سيرته تم إصداره قبل فترة وجيزة تحت عنوان «الوالي إسماعيل»، من إعداد الزميل الباحث د. محمد بن حمد العريمي، بعد أن زوده نجل الرصاصي الوحيد «إياد إسماعيل الرصاصي» بالمواد والوثائق والرسائل والصور النادرة. ويقع الكتاب في 423 صفحة من القطع الكبير، ويتكون من تسعة فصول، تسلط الضوء على سيرة الرصاصي ودراسته وتنقلاته ومناصبه والجوانب الاجتماعية والإنسانية في شخصيته، وعلاقاته مع أهل الحكم والقرار ومع مجتمعي مسقط ومطرح وغير ذلك. عهد قابوس.. والعمل الدبلوماسي شكل أفول عهد السيد سعيد بن تيمور ومجيء ابنه المغفور له السلطان قابوس بن سعيد إلى السلطة سنة 1970، حدثاً مفصلياً آخر في مسيرة الرصاصي، حيث كتب عن هذا الحدث الكبير في تاريخ عمان المعاصر قائلاً: «سافرت في أول يوليو 1970 في إجازة إلى بيروت، وفي 23 منه وصلتنا، ونحن هناك، الأخبار بأن السلطان سعيد تنازل عن السلطة لولده السلطان قابوس. قطعنا إجازتنا وقفلنا عائدين إلى مسقط لنكون قريبين من مجرى الأحداث»، ويضيف: «فهمت من السيد طارق بن تيمور رئيس الوزراء، أن الذين كانوا مع السلطان سعيد يستقيلون وأنه سيكون هناك وزير جديد للمعارف، لكنه قال لي لا نستغني عنك وربما هناك مكاتب تفتح في الخارج أو غير ذلك». وهذا ما حدث بالفعل، حيث أقصي من كافة مناصبه، لكن السيد طارق بن تيمور طلب منه تأسيس وإدارة مكتب الجوازات بمسقط. وفي أوراق الرجل ومذكراته نجده يقول، إنه قدم استقالته في الأول من مايو 1971 طالباً التقاعد، وإنه عدل عن الاستقالة والتقاعد بعد أن صدر مرسوم سلطاني بتعيينه قائماً بأعمال سفارتي سلطنة عمان في كل من إيران وباكستان، حيث سافر إلى طهران لافتتاح السفارة العمانية هناك ومباشرة عمله الدبلوماسي. وفي الأول من يناير 1974 نال ترقية رفيعة، إذ صدر مرسوم بتعيينه سفيراً فوق العادة مفوضاً لدى إيران، وفي مايو من العام نفسه صدر مرسوم آخر بتسميته سفيراً غير مقيم لدى تركيا. وهكذا ظل الرصاصي يمثل البلاد التي احتضنته كمدير مدرسة بادئ الأمر في إيران وباكستان وتركيا إلى أن انتهت مهامه فغادر طهران عائداً إلى مسقط في مارس 1976، ليحال إلى التقاعد في مايو 1978، من بعد تكريمه بوسام النهضة السلطاني من الدرجة الثانية. وفي 23 يوليو 1986، انتقل إلى جوار ربه في ألمانيا الغربية عن 84 عاماً على إثر عملية جراحية، فصلي عليه ودفن في مقبرة حارة الشمال بمدينة مطرح، بحضور عدد من كبار المسؤولين مع عدد قليل جداً من عامة الناس من سكان مطرح.