رجال الأعمال في منطقة الخليج يُعتبرون عند بعض الأشقاء العرب «حديثي نعمة»، بمعنى أنهم مجرد أصحاب ثروات تراكمت فجأة خلال فترة من الزمن، ولا يمتلك أصحابها أي خلفية ثقافية أو علمية سابقة أو أدنى اهتمام خارج إطار المال والأعمال. غير أن هناك أدلة كثيرة تفند هذا الزعم وتخرسها، شاملة شخصيات ونماذج من مختلف دول الخليج العربي دون استثناء. صحيح أن هذه الشخصيات منخرطة في تطوير أعمالها التجارية والصناعية والخدمية والاستثمارية كما هو ديدن رجال الأعمال في أي مكان وزمان، لكن الصحيح أيضا أن هناك نماذج كرست جانبا من جهودها ووقتها وثرواتها للارتقاء بالذائقة الفنية لمواطنيها من خلال الإنفاق على الحركة الفنية والمسرحية وأعمال الطباعة والنشر، أو للمحافظة على التراث والأصالة من خلال تأسيس المتاحف الدائمة وتزويدها بكل ما هو نفيس ونادر وباعث على الدهشة ودافع للمزيد من البحث والاستقصاء والاكتشاف. أحد هؤلاء، إن لم يكن أبرزهم، محمد بن الزبير وزير التجارة الأسبق في سلطنة عمان والمستشار الاقتصادي للسلطان قابوس لشؤون التخطيط ومبعوثه الثقافي، الذي هو في الوقت نفسه رجل أعمال ناجح ومعروف في طول بلاده وعرضها. ولئن كان نجاحه وشهرته نابعين مما تمتع به من ذكاء وألمعية وقدرة فذة على الجمع ما بين القيم والتقاليد والمهارات التجارية، فإن السبب الآخر لشهرته هو تاريخ عائلته الذي لا يمكن الحديث عنه بمعزل عن تاريخ عمان وسلاطينها. ولد الشيخ محمد الزبير في مسقط ابنا للشيخ الزبير بن علي، وحفيدا للشيخ علي بن جمعة الهوتي. والهوتي من قبائل البلوش التي استقرت في عمان منذ أكثر من خمسة قرون، واستشهد الكثير من أبنائها دفاعا عن عمان سواء داخل أراضي الأخيرة أو في شرق أفريقيا، فصاروا جزءا لا يتجزأ من فسيفساء المجتمع العماني متعدد الأعراق والثقافات. كان جده مقربا ومستشارا لأبناء أحد أكثر سلاطين عمان ذكرا في التاريخ، وهو السلطان السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي الذي حكم في الفترة ما بين عامي 1806-1856، وشهد عصره ازدهارا اقتصاديا واستقرارا أمنيا كبيرين مع توسع نفوذ عمان من ميناء بندر عباس الإيراني على ساحل الخليج العربي إلى زنجبار وممباسا على سواحل شرق أفريقيا. ففي هذه الحقبة شغل جد محمد الزبير منصب المستشار للسيد ثويني والسيد ماجد والسيد برغش أبناء السلطان وكان يرعى المصالح التجارية لهم ولأبيهم في زنجبار. أما والده الشيخ الزبير بن علي الذي ولد في مسقط أيضا فقد عمل في ظل ثلاثة عهود مختلفة، حيث كان الكاتب الأول للسلطان تركي بن فيصل، وكان مرافقا للسلطانين فيصل بن تركي وولده السلطان تيمور بن فيصل، وأما هو فقد كان أحد أصدقاء الطفولة للسلطان قابوس. وطبقا لما ورد في كتاب «عمان في عهد السلطان تيمور 1920 - 1932» لمؤلفه سالم بن حمد النبهاني (بيت الغشام للنشر والترجمة/ مسقط / 2015)، فإن السلطان تيمور حينما نفذ مشروعه الإصلاحي للحكم بناء على اقتراح من بريطانيا العظمى قام بتشكيل أول مجلس وزراء عماني كي يتولى هذا المجلس إدارة شؤون مسقط الإدارية والسياسية في حالات غيابه عن البلاد، وكان الشيخ الزبير بن علي أحد أعضاء هذا المجلس إلى جانب رئيسه السيد نادر بن فيصل البوسعيدي ومحمد بن أحمد بن ناصر الغشام البوسعيدي والي مطرح والشيخ راشد بن عُزيّّز الخصيبي. ويُعزى للشيخ الزبير بن علي أنه كان وراء عدد من المشاريع الخاصة ذات الأهمية الملحة للمواطنين في تلك الفترة المبكرة، مثل قيامه بإنشاء أول مصنع للثلج وتأسيسه لأول شركة كهرباء في عمان. وعليه فلا غرابة لو عرفنا أن ابنه محمد الزبير سار على درب أبيه، فكان في طليعة من انخرطوا بشجاعة في مختلف ضروب المشاريع التنموية التي انطلقت في عمان بعد مجيء السلطان قابوس إلى السلطة سنة 1970، مستمدا ثقة السلطان وحكومته فيه من إرث عائلته وإخلاصها، ومن السمعة الطيبة لشركة الزبير ونشاط صاحبها ومؤسسها محمد الزبير في عدد من المؤسسات الوطنية ذات الصلة بالأعمال المصرفية والاستثمارية والصناعية والخدماتية. ولد محمد الزبير في مسقط كما قلنا، وترعرع بها، ودرس في مدارسها قبل أن يلتحق بوظيفة في «شركة نفط عمان». في هذه الشركة أمضى نحو خمس سنوات من عمره، كانت كافية لتُعلمه اللغة الإنجليزية وأساليب الإدارة والتسويق الحديثة، وتنمت فيه روح المغامرة في النشاط التجاري الخاص. وهكذا بدأ الرجل مشواره في دنيا المال والأعمال بتأسيس «شركة مسقط للتجارة» في سوق مطرح التي سجلها في عام 1967 لتكون بذلك أول شركة مسجلة رسميا في البلاد، ثم لتتحول هذه الشركة المتواضعة إلى كيان تجاري عملاق شيئا فشيئا مع توالي خطط وبرامج التنمية الداخلية وسياسات الانفتاح على العالم الخارجي منذ العام 1970، وليتغير اسمها تبعا لذلك إلى مؤسسة الزبير The Zubair Corporation في سنة 1973. واليوم يقدر عدد الموظفين العاملين في المؤسسة بأكثر من 2500 شخص، يعملون في ستة أقسام رئيسية تندرج تحتها نحو 60 شركة وفرعا وتحالفا مشتركا، بينما تبلغ ثروة الزبير وأولاده أكثر من 3.5 مليار دولار. ولئن كانت التوكيلات الحصرية لسيارات مثل: فولكس واغن، وكرايسلر، وجيب، وميتسوبيشي، وبيجو، وياماها، هي عصب تجارة الزبير، فإن نطاق استثمارات مؤسسته يشتمل على قطاعات أخرى متنوعة مثل الاتصالات، وتقنية المعلومات، والإنشاءات والعقارات، والتصنيع، والدعاية والنشر، علاوة على قطاع الفندقة والضيافة الذي حققت فيه مؤسسة الزبير نجاحا مشهودا عبر إقامتها ثلاث مجموعات من الفنادق الفاخرة تتخللها الشقق والفلل في منتجع «شانغريلا بر الجصّة». وهذا المشروع الذي تم افتتاحه سنة 2006 على مساحة 124 هكتارا بتكلفة تجاوزت 180 مليون دولار أمريكي، لم يساهم في دفع عجلة السياحة الفاخرة في السلطنة فحسب وإنما شجعت الآخرين على إقامة مشاريع سياحية مماثلة مثل مشاريع: «السيفة» و«بانكيت» و«المدينة الزرقاء». إضافة إلى ما سبق، انخرط الزبير في مشاريع الطاقة وتحلية المياه، وهو ما تجلى في مساهمة شركته بنسبة 10% في مشروع «صحار للطاقة والتحلية» المقدر قيمته بنحو 550 مليون دولار والموجه لإنتاج 585 ميغا وات من الكهرباء و33 مليون غالون من المياه يوميا. وما يشار إليه في هذا المقام أن محمد الزبير قام في مايو 2010 بتحويل مسؤوليات شركته بفروعها وأقسامها المختلفة إلى أبنائه السبعة (سهيلة ورشاد وزياد وحسام والزبير وخالد وهاني) كي يتفرغ لمسؤولياته الحكومية وهواياته المتعددة وأعماله الخيرية. وحرص قبل ذلك في عام 2008 على أن يجلب لمؤسسته عقولا وطاقات جديدة أجنبية ومحلية لشغل المناصب التنفيذية فيها من أجل أن تبقى مؤسسة أعمال عائلية صامدة ومواكبة لكل التطورات. ومن أبرز أبناء الزبير: رشاد محمد الزبير الحاصل على درجاته الجامعية الأولى والعليا من جامعتي واشنطون وكلورادو، وعلى خبراته المهنية من وظيفته الأولى نائبا لرئيس الشركة العمانية العالمية للتنمية والاستثمار، ثم من عمله مع «دانا غاز» و«بنك عمان العربي» و«هيئة سوق المال» وعضويته في مجلس إدارة «منتجع بر الجصة». وهناك هاني محمد الزبير الحاصل على شهادة البكالوريوس في الرياضيات وعلوم الحاسب الآلي من جامعة رتشموند في المملكة المتحدة، الذي اكتسب خبراته من العمل في المصارف السويسرية ومصرف «مورغان غرنفل» بلندن قبل أن ينتقل إلى عمان للعمل لدى الشركة العمانية العالمية للتنمية والاستثمار، ومن ثم لدى والده عضو مجلس إدارة في مؤسسة الزبير ورئيسا للجان تقييم المخاطر والتدقيق والموارد البشرية في مؤسسة الزبير للسيارات. كما مثل هاني الزبير السلطنة في اجتماعات رابطة المحيط الهندي، وفي جمعية التعاون الإقليمي، وفي المجلس الإقليمي لقادة الشباب العربي. النشاط التجاري المميز للزبير كان سببا في اختياره في سنة 1973 لترؤس اللجنة التأسيسية لغرفة تجارة وصناعة عمان. وفي السنة التالية صدر مرسوم سلطاني بتعيينه أول وزير للتجارة والصناعة في تاريخ بلاده، كما صار في السنة ذاتها عضوا في المجلس الأعلى للتطوير والموارد المالية والطاقة. وفي عام 1984 عينه السلطان قابوس مستشارا له للتخطيط الاقتصادي فترأس بهذه الصفة عددا من اللجان الوزارية والوطنية مثل لجنة العلاقات الاقتصادية، ولجنة الخصخصة، ولجنة المحافظة على الموارد المائية. بعيدا عن كل هذا، ولأسباب ذات علاقة بنشاطه وسعيه الدؤوب من أجل تكريس العلم لخدمة المجتمع وعملية التنمية في عمان وتخريج الكفاءات المؤهلة القادرة على الارتقاء بوطنه في مختلف القطاعات الحيوية، معطوفا على رغبة السلطان في منح المناصب التربوية العليا لمواطنين متألقين ومتفانين ومثابرين، أوكلت للزبير في الفترة ما بين عام 1997 وعام 2001 رئاسة أكبر صرح تعليمي في السلطنة ممثلا في جامعة السلطان قابوس التي أصبح ثالث رؤسائها من بعد رئيسها الأول الشيخ عامر بن علي بن عمير المرهوني، ورئيسها الثاني الدكتور يحيى بن محفوظ المنذري. وخلال فترة ترؤسه للجامعة شهدت العديد من الإنجازات التي تحسب له، منها: توقيع أول مذكرة تفاهم علمية بين جامعة السلطان قابوس وجامعة أجنبية، وقد كانت جامعة آخن الألمانية، توقيع أول مذكرة تفاهم بين الجامعة وشركات محلية كشركة النفط العمانية، إنشاء عدد من المراكز البحثية في الجامعة كمركز أبحاث الاتصالات والمعلومات، ومركز رصد الزلازل، ومركز أبحاث النفط والغاز، ومركز أبحاث المياه، ومركز الدراسات والبحوث البيئية، تدشين كرسي شركة شل، طرح برنامج الدكتوراه، استضافة المنتدى الثقافي والأكاديمي لجامعات دول الخليج العربية، إقامة أول مهرجان طلابي في الجامعة، الإعلان عن إنشاء قاعة متعددة الاستخدامات على نفقة السلطان، وغيرها. وفي سيرة الزبير صفحات أخرى كثيرة تبرهن على تعدد مواهبه واهتماماته، فهو على سبيل المثال من أبرز هواة التصوير الفوتوغرافي في بلاده، ومن أجلها اقتنى أحدث وأعقد آلات التصوير، وتعلم كيفية استعمالاتها في التقاط صور تؤرخ لنهضة عمان وتاريخها العريق وطبيعتها الخلابة. ولعل أكبر دليل على صحة كلامنا هو حصوله على ميدالية ذهبية من اتحاد المصورين العرب في فبراير 2018 بصفته رائدا من رواد التصوير العربي المتخصص في جماليات صور الطبيعة. هذا ناهيك عن دليل آخر هو المعرض الفوتوغرافي الذي أقامه في متحف يحمل اسمه تحت عنوان «لحظات الدهشة» في عام 2015. في هذا المعرض عرض الزبير ثماني من لوحاته الفوتوغرافية التي اختارها بنفسه، مع حرصه على تنوعها فاختزلت تلك اللوحات مناظر من الطبيعة ومناظر من مختلف مناحي الحياة في أماكن عدة وأوقات مختلفة. ومن جانب آخر، حرص الرجل أيضا على عرض تلك الصور الفوتوغرافية على لوحات من الألمنيوم، كي يمنحها الامتداد القياسي الكبير مساحة أوسع للتأمل كما كتب محمد سيف الرحبي في صحيفة الحياة (2015/2/21). وطالما أتينا على ذكر المكان الذي احتضن هذا المعرض وهو «متحف محمد الزبير» أو «بيت الزبير»، فإن هذا البيت يجسد جانبا آخر من اهتمامات الزبير الثقافية متعددة الأوجه. فبيت الزبير هذا بناه الأب الشيخ الزبير بن علي بالقرب من قصر العلم في مسقط القديمة سنة 1914، لكن الابن محمد الزبير قرر في عام 1988 تحويله إلى متحف يخدم كل المهتمين بالتراث العماني العريق من باحثين وزائرين وسياح، خصوصا أنه يحتوي على مجموعة متكاملة من التحف والمقتنيات العمانية الأصلية الممثلة لمختلف أنحاء السلطنة من تلك التي توارثتها عائلة الزبير آباء عن أجداد، أو تم اقتناؤها لاحقا. فمثلا يحتوي البيت/المتحف على الأسلحة العمانية التقليدية من مدافع وسيوف وبنادق وخناجر مختلفة الأشكال والأنواع، والمجوهرات، والملابس، والأدوات المنزلية المستخدمة قديما، ناهيك عن نماذج تجسد البيئة العمانية الريفية والحضرية والبدوية والبحرية. حرص الزبير، الحاصل على العديد من الأوسمة وشهادتي دكتوراه فخريتين من جامعتي توتنغهام وسنترال لانكشاير البريطانيتين في عامي 2001 و2005، على ألا يكون متحفه مجرد مكان لعرض ما سبق فحسب، وإنما حوله أيضا إلى كيان ينبض دوما بالحركة، وذلك من خلال تقديم خدمات تثقيفة في صورة ندوات ومحاضرات، وإقامة فعاليات فنية مثل المسابقات المسرحية والمعارض الفنية المؤقتة، والمساعدة في مجال البحث والتوثيق من خلال تدشين الكتب التاريخية وغيرها. ومرة أخرى نبتعد عن كل ما سبق، ونولي وجوهنا شطر جانب آخر من سيرة الزبير المكتنزة بكل ما هو جميل. فالرجل يعتبر في عمان من الشخصيات التي رفدت المكتبة العمانية بالعديد من الإصدارات المتنوعة، فعلاوة على كتاب أصدره قبل عدة سنوات حكى فيه بالتفصيل عن سيرته وسيرة عائلته، هناك كتاب «عمان حضارة عريقة: دولة حديثة نحو اقتصاد مبني على المعرفة والخدمات» الذي صدر بالعربية والإنجليزية في سنة 2004 من تأليف محمد الزبير وأستاذ الفيزياء السابق بجامعة ترينتي الإيرلندية البروفيسور فنست ماكبرايت الذي عمل في عمان خلال الفترة من 1998 إلى 2002 مساعداً لنائب رئيس جامعة السلطان قابوس. وفي هذا الكتاب، الذي تم نشره بالتعاون بين مؤسسة بيت الزبير بمسقط وقسم النشر بكلية ترينتي في دبلن بايرلندا، يرصد المؤلفات التحولات التاريخية والسياسية والاقتصادية والمعرفية في عمان على مدى ستة آلاف سنة. وهناك أيضا كتاب دشنه الزبير على هامش معرض مسقط الدولي للكتاب في فبراير 2015 بعنوان «نزوى»، حيث جاء الحدث توافقا مع الاحتفال بنزوى عاصمة للثقافة الإسلامية. وقد وضع الزبير في هذا الكتاب عشرات الصور القديمة والحديثة الملتقطة بعدسته أو عدسة غيره لمدينة نزوى، مع نبذة تاريخية عن المدينة منذ العصر السومري إلى العصر الإسلامي فما بعد، ونبذة عن موقعها الجغرافي وأصل تسميتها، فجاء عمله توثيقا بصريا لمشاهد عرفها العمانيون، وبرهانا على التفاعل ما بين الإنسان والمكان لإنتاج الحضارة بفنونها وآدابها المتنوعة. وفي عام 2013 صدر للزبير كتاب «رحلة عمان المعمارية» الذي رصد ووثق فيه المؤلف مراحل تطور العمارة العمانية منذ بداياتها الموغلة في القدم وحتى مظاهرها المعاصرة، ومن أماكنها في جبال مسندم إلى محافظة ظفار الساحلية مرورا بالمناطق الداخلية والصحراوية، وذلك من خلال 773 صورة أرشيفية.