علّقت الجدة مخّاضتها، بالحبل المُدلى من السقف، وبدأت ترجّ حليب بقرتها، وإذا فُترت يدها اليمين، حوّلت قعدتها للقبلة، وخضّت باليُسرى، حتى وهّمت إن اللبن خثر، فاقتربت الحلّة، وصبّت بها ما في المخاضة، ولسانها يلهج بالتسمية والدعاء؛ بأن يبارك الله في بقرتها؛ ويثمّر في حسيلتها. حازت بكفها الدهانة، وجمعتها في زبديّه صغيرة، ثم تناولت من حوض ريحانها، خوطاً وغمّسته في اللبن، وفردت على فم الحلّة شرشفاً، ثم غطّتها نصف تغطية حتى لا يحمِض. دخل حفيدها، البالغ ستة أعوام، يطارد البسة، سألته: وشبك يا سُكني؛ قال: فقست بيضتيَه، وكادت البسة تغدي تعب الجدة بلاش، فصاحت عليه، بغيتم تكفحون الحقينة يا سبوقة إبليس، فقال: والله لأخنقها، وتوزّت البسة في ظهر الجدة، والحفيد يقرصها في ذنبها فتصيح، وتخرمش في شرشف الكهلة وظهرها، فالتقطتها برقبتها وحدحدت بها، فانشرح صدر الطفل، ودعك خشمه الملبّد بطرف كمّ ثوبه؛ مستشعراً الانتصار وشفاء غله، فقال: وين نصيبي من لبنك؟ فقالت: امتص الشكوة، وبعدما تطيّبها، نقّعها في الطشت تحت القِرْبة، حتى لا تقُب مع هذي الشرقية، اللي أغدت كُفانك كما جلد الحُبيني، فتناول الشكوة وهو يضحك، وانسدح على ظهره على حجارة الدرجة، وأدخل فم الشكوة بين براطمه. عاد الفقيه من الوادي، بِقِراه صريم قضب، وحزمة قصيل ذرة فوق كتفه، وابنه الوحيد مقفل الطريق، ويمق الشكوة، فأزاحه بقدمه، قائلاً: قم وخّر يا وجه الشوم، وأبلغ أمه، انه بيدعر للسوق، وما بيتلهوى عليها، فقالت: خلني أودّعك أبغى لي لبان، وديرم، ومستكة نبخر بها الدلّة، وجاوي وضفار، فاستغرب وتساءل لمن تتبخرين يمه؛ يا الله حسن الختام، فشالت بالصوت على لحن السامر «يشيب الجسد والروح خضرا تقل زيدي، ولو كان بيدي زدت لكن ما هو بيدي»، وهي تفك عقدة في معصبها وتناوله عشرة ريالات، تمقّل فيها، وقال بينه وبين نفسه؛ مدري عن أمي، أخاف إن قلبها أخضر صدق؛ من يوم العريفة يتدرّج حولها وحواليها، وكل يوم يجي يشرب لبنها، ويبلل شاربه بزبدتها؛ وأنا كما الأصنق ورا العرّاضة؛ ثم برر لنفسه وهو نازل للسفل، ما خبرنا الولد يربّي أمه. اقتاد حمارته من المساريب، حتى حاذى صخرة مدرمحة في طرف القرية، فاعتلاها ليقترب من ظهر الحمارة، وفاشخ أرجوله على جانبيها، ثم نغزها بكعبه في شاكلتها، فانطلقت كما الفرس السبوق، لمح الشيخ ينفض الجاعد على حافة رعش العالية، فصبّح عليه، شاور له بيده تعال؛ فردّ عليه بصوت مسموع، في مصداري باتقهوى معك، وصل السوق، ولّف مقاضيه، واقتضى للشيخ وزنة قهوة، وقابل حشّاي الصدور، وأوصاه يا هب للشيخ تعبه ما تبرد؛ وما حميت الشمس، إلا وهو معتنز بكوعه على حِرانة ملّة الشيخ. سأل الفقيه الشيخ: وش ظنتك فيّه؟ فأجابه: وسبعة أنعام، والشيخ يُدرك أن وراه فتنة، وأسرّ في نفسه أنه لا بدّ من مداراته ومجاملته. فقال الشيخ: على كل حال البيت بيتك، وأنت السكين، وأنا اللحم، ولا يردك إلا لسانك، فاغتنم الفرصة وقال: جاني علم في السوق، أن عريفتنا وعرفاء ثانين ناوين عليك، وتقعير عريفتنا يصل لأم التخوم، وأخاف يستحب الشياخة منك، وانت لاهي بالنساوين والوراعين، وأضاف: عريفتنا لا يغرك شكله، والله يا صقارة فيه، وأبوه إنت خابره، الله يعفي عنه (دبشة) فتبسّم، وقال: صدقت. أرسل الشيخ في طلب العريفة، فدقه قلبه، وتيقن أن الفقيه ورا الموضوع؛ لأنه يتكرّه مجيته عند أمه، فجرّ خطاه المتثاقله، وإذا بالشيخ يبدي له بالتراحيب، أعطاه العلم، وقال أنا وانت «لبابتين في غضروف» وودي نشوف لنا بُصر في فقيه القرود، ما غير ينطنط الله يجعل سباع الليل تنط في حلقه، فسأله العريفة: الشور عندك وإلا عندي؟ فأجاب الشيخ: لا والله إلا عندك، إنته من جماعته، وتخبر أبو زيد وزوايده، فقال: ترى الفقيه من يوم استحب الله في مرته زادت شيطنته، ولا كنه بيموت؛ يهمّ له ياهب في كل بيت ناعيه، ودواه نزوجه على أخت المذّن. ارتخت أعصاب العريفة، وكأنه عرفها، فقال: عزّ الله جبتها، وربي ما يظهر جُنانه إلا هي، فضحك العريفة وبدع «الله يسلط على ربعي ونسوانهم؛ لا كبرت بنتهم قاموا يصيبونها، ولبسوها المدارة شار مغزولنا، فقام يحثي دراهم بوه بحثولها» فتضاحكوا وتقهووا واللي عليهم بالخير، ولقّى العريفة من ساعته على المذّن، لقيه في الوادي، واختلى به في خنقة الركيب، وقال: جيتك من عند الشيخ، وده تعطي أختك للفقيه، قال: ما يمشي كلامي عليها، هي أختي من آبي، وترى هي تزوجت خمسة، وكلهم صاروا لرحمة الله، وورثتهم مال وحلال و(ساطيه) ما بتقول لا ودّها بنسمة تتشمشمها في الليل، وتكدها في النهار، والفقيه لو سمع ما بييس ريقته سايله. استقعد العريفة للفقيه، كلما انقضى فرض، قال: أقعد واعلمك، وعدد محاسن (ساطيه) ومرزقها، فقال: ما بترضى بي (يابو حاليه) فقال: أفا ماني ولد آبي إذا ما خليتها ترضى بك، فأكد عليه يجيه بالعلم قوام، وقال: دخيلك لا تخلي ورا جهدك جهد، عوّد عليه قائلاً: وش أبشرك به؛ فقال: خير، قال: وافقت (ساطيه) وتقول الجمل بما حمل، فسأله: وش قصدها بالجمل بما حمل، قال: إنت وأمك وولدك الأهتش. راحت العروس، وبعد العشاء، سرى العريفة والشاعر يتسمعون، وشافهم المذّن وطلع معهم فوق البيت، قال: اش تعبون، قالوا: نبغي ياهب لنا من اللزومة، فخرج عليهم في الغدرة ويده تمد بصحن اللحمة، ورأى رحيمه المذّن قال: حتى انته تتسمع على أختك يا ديكان؟ فدنى برأسه وتعشوا مرة ثانية، وعادوا حول القترة، فسمعوا الفقيه يقول للعروس «والجمل لا حسر ما عاد يقوى الثقايل ون تهدرى». صحي العريس شرقة الشمس، وتلبس، وقام يستقبل المِبَاركة، وأول من أقبل عليه العريفة، ونشده: وشب وجهك يلعن بعضه بعضا، كنّك سريت تحوق نثله، تلفّت، وسمع ولده يتلعب مع بنات زوجته؛ ويردد «يا من فسى فسى دود؛ في بندقه عباريد؛ من خزنة أم مسعود؛ والحاوري والزاوري والتنشيق» بغى يطلبه يجيب القهوة والفال؛ وهوّن، وقام يجيبها بنفسه. ولّجت (ساطيه) على الفقيه، ما تفك عنه، وفحِي الرجال، وبدأ يشكي على أمه، قالت: إدري اسمعها كل ليلة تنذّر بك؛ ولكن حُط من مالك، ولا يُرمى خيالك، ففتح السحارية، وصار يسترضيها، يوم بدراهم، ويوم بمقضى، ويوم بعزيمة لأخيها المذّن وعياله، وأمه تردد ما يرزى حسها في البيت يسوى مسوى. فقال الفقيه، ما عاد لي قدرة يمه، الآدمية طول الليل أتنحّط واتعصّر لين احس معياني بتخرج، والبندقة إذا أحوت منكسة ما تثور، ويلكد نادوسها، فقالت: الحرمة جايرة والله لتفضّح بك بين النساوين، وتعيب في رجولتك؟ فردّ عليه: وش تا الورطة اللي هبيت نفسي فيها؟ فقالت: ما معك إلا تاهب من مالك، ولا يُرمى خيالك، فقال: الله لا يذكرها ومن شار بها عليّه بالخير. بعد العصر قال للعريفة: باتقهوى معك، فقال: مرحبا هيل عدّ السيل، رشف جغمه من فنجاله، وقال: نشدتك بالله، وش قد جاك مني، قد آذيتك؟ تعديت عليك، زهقت على شجرك والا مدرك؟ والعريفة يردّ: لا، حماك الله!! لا، جارك الله!! فقال: زي ما كبّلتني فكني، فقال العريفة: صبرك، وحُط من مالك ولا يُرمى خيالك، فقال: حطيت من مالي، حطيت من مالي، لين اخترطت حتى سروالي، خلتني كما ما خلقني، لا فوقي ولا تحتي، فرّطت في بقرة أمي، وصخيت حسيلتها، فقال: يكفيك الدجاج والله بيغانيك، فبدع بصوته الشجي «ما رزق ياجي من الديك، ولا لبن من دجاجه» وخرج من عند العريفة، وهي خرجته، وتسامعت القرية، أن صوتاً في الوادي يردد من بعد العشاء «وانت يا بو حاليه ما حكمك إلا في مشقّف؛ وانت ذا خاخيت بيدي يالله انك خوخ بيده».