اقترب عيد الضحية، والناس فيهم شيفه، يُعانون من شُحّ السماء، وقحاوة الأرض، وليس لديهم ما يتعيّدون، ويحييون به سنّة الأضحية، وخلقة الأوادم شاحبة، تخرع طائفة من الجنّ، والحلال مزري، والدار من أعلاها إلى أدناها ليس بها منيحة ولا ذبيحة، والعريفة له كم يوم يدّلِس، في قلبه حارص ومارص، وما غمض له جفن، ولا هدأ له بال، عين ترقب شرقاً، علّه يقبل عليهم الطُراش بالجلب، وعين قاطعة في الغرب تتشوف طُرقي يطلع من الساحل بخبشة. خرج من بيته ضحىً للمسطح، فتمدد تحت أشعة ودفء شمس خريفية، وتناول حجراً مدرمحاً من المرمّد، ووضع عمامته عليه، واعتنز عليه بيده اليسرى، وذرفت عيونه حسرة من غبرة الوادي، وحامت حوله نحلة، فقال لها، ما معك إلا صلعتي، ودك تلمحين إن كان فيها عسل، فأشعل سيجارته فهربت، وما عبّى ولا ثبّى إلا والفقيه عنده، يفح ونسمته تتقطع، فعزمه يطلع معه البيت إن كان قِسم لهم دلة، فقال، دخيلك إن كانت راشقة جبها هنيه، مافيّه من طلع العالية، حيلي فاتر. غاب عنه حقّ ساعة، وعاد عليه بقهوة قافرة، ونقل متكاه الحجر إلى تحت الشبارقة، التي طرف الجرين، وطلب منه يدّرق في ظلها، فصبّ له مردداً، الأوّل ساس، والثاني يقعد الراس، والثالث يكفيك شر الباس، فتبسم من غير نفس، فقال الفقيه، وجهك ما أعجبني، فقال العريفة، الله لو تدري وش قلب وجهي، فقال، خير. قال، منين الخير وانحن ما معنا ما نتعيّد به؟ أقبل عليهم الشاعر، وهم في تالي السالفة، سلّم ونقر في الحيلة بعصاه، وقال، الشور عندكم وإلا عندي، فقالوا بصوت واحد، عندك ثم عندك، فقال، ما لكم إلا (خنفور) سمعت إنه عازم يهبط بكرة يبيع الثور ويحج بثمنه، فاقتعد العريفة، وقال، بيّض الله وجهك، وين لقطت العلم، فقال، مرته (خنفورة) علّمت مرتي (بربورة) امسي، فتساءل العريفة، من يدرّكه لنا؟ فشاور الشاعر بعصاته على الفقيه، وقال ضاحكاً، هذا لجّم حايم الطيور، وبجّم فصيح البزور، ودرّك الجنّ في البحور، والعفاريت في الجحور، خلّ عنك ما يدرّك خنفور، فتعالت الضحكات. ما أبطأ الفقيه، عوّد عليهم قرب صلاة الظهر، ويده بيد (خنفور) وما أمداه يتواسى، حتى بدع له الشاعر، (ليتك تساعدنا على النحر يا خنفور بالثور، وإن شاء الله بعد العيد نقضيك حقك بُرّ صافي، وإلا قسمنا لك شطيّين من عزّ المساقي، وان كان ما وفّيت فاشرك معي في نُصّ عودي)، فسألهم، عينكم على ثوري، وأنا مبيّت نيّة الحج، وعلومي ما تخفاكم، فقال العريفة، علومك كلها بيضاء. هشل دموعه، وقام ينوح، ويعترف بما اقترف، قال، أنا من يوم أعرف نفسي موذي، ما بقي أحد من ربعي وجماعتي ما آذيته، قحمت حمارتك يا عريفة في الكُرّ، وفقعت عين جمل الشاعر، واحتلبت عنز الفقيه لين ماتت جفارها من الزرى، وتقلّعت خبزة حرمة المؤذن، ولا سلمت من أذيتي لا الكلاب ولا الحشرات ولا الديبان، وهبيت في كل بيت ناعية، و ما عشّ إلا نخشته، ولا غار إلا بالدخاين حشرته، ولا بس إلا حذفته، ولا ديك إلا خنقته، ولا بيض إلا لقطته، وما سموح لكل هذي المخازي إلا توبة نصوح. حاولوا فيه، جابوه يمين جابوه يسار، فأبى، وهوّنوا عليه الآثام، وقالوا ترانا سامحناك، والجماعة كلهم مسامحين، فلم يستجب، وقال، إن كان شيء عندكم لي معزّة، خلوني أقضي فرضي، وأودّي حجة الإسلام، واستسمح ربي من عند بيته، وترى الثور قد استلمت فيه العربون، وسفري للحج دور اليوم، وما يصدني، ولا يردّني عن قصدي إلا فوت وإلا موت! كان مع الفقيه زبيب ولوز وثاقة، أرسلها له فقيه من زبيد، وقال إن كان ودكم تدرّكون (خنفور) فازهموا لي (خنفورة) وبليتم الهمّ، وفي وجهي لتعيّدوا بثوره وهو اللي يذبح ويصلخ، تلامحوا في بعض، وقال العريفة للشاعر، بنت عمك وما يسنعها لنا إلا أنت، فندف صدره، فقال العريفة، خلها غدوة بكرة تجينا في بيت الفقيه، وأنت اسرح بخنفور الفيض، وقل له، معنا طيور قهاد نتقنصها، ولزّم عليه، ولا ترح به إلا عصرا. تلحفت (خنفورة) بحوكتها، ودخلت عليهم، سلّمت وقعدت قبالتهم، فقال الفقيه لزوجته، أبوك ماشي هيله، اغدي ألمحي له، وانا بألحقك عن ساعة، فقامت على عجل، وتلفعت بشرشفها، وما إن سمعوا دبيك كراعينها في الدرجة، طلب العريفة من الفقيه يقعد عند الباب، ويتأكد أنهم في مأمن من سارقي السمع، رمى العريفة عمامته في حثل (خنفورة) فنقلتها على رأسها، وقالت، لو تطلب واحد من عيالي يا رأس القوم، فقال، طلبنا من خنفور الثور نتعيّد به، ورأسه وسبعة سيوف إنه ليبيعه ويحج بثمنه، وما يخفى عليك حالنا والمشكى على الله ما هو عليك. حبك الفقيه الأدوار، وقال، إذا انتصف الليل، باصب فوقكم من الكُترة لباب وزبيب، وأدنق برأسي وأقول، يا خنفور لا تبيع الثور، ذَنْبَك مغفور، وإنتي صحيه من النوم، وقولي، سمعت اللي سمعته، إذ قال وش سمعتي، ولعي فانوسك، ولقّطي اللباب والزبيب، وعلميه باللي سمعتي وعلينا الباقي. أصبح خنفور عند العريفة، وقال، جرى على رفيقك ليل، دهمنا قاطر وقطير، بصوت مشخور، وزبيب منثور، فأقسم العريفة إنه سمع بأذنه وشاف بعينه، فوق بيته طير أبيض يحوم ويصوّت، خنفور، ذنبه مغفور، خنفور ذنبه مغفور، جاء الفقيه ومعه لباب وزبيب، فقال، هني لك يا (خنفور) سأله، بيش هني لي؟ فأجاب، أنا معدي قرب الفجر من عند بيتك، في طريقي للمسيد، إلا ولباب وزبيب يتساقط من أكمام جُبة طايرة في الجو، لها كما جناحين الطير، كن في مقدمتها وجه آدمي، وصوت محشرج يرتل، خنفور ذَنْبه مغفور، وفي الأثناء، انتزى المؤذن عليهم من فوق الجدار الفاصل بين ظُلة المسيد وبيت العريفة، وهبد فوق الجناح، فطارت الدجاجة في وجهه خوفاً على فرانيجها، دخل فحمان، وطلب زوجة العريفة طاسة ماء، وقالوا، اسكتوا يا هول هجد القرية البارح، لا قد جا ولا جرى، السما مغطاة بحومة نسور بيضاء تتكلم، ما لقطت إلا، ذَنبه مغفور، فلمح الفقيه في (خنفور) وقال، ريت، ربّك عرف نيّتك وقِبِل حجتك، وانت ما بعد نقلت خطوتك، فتلفّت وقال، أنا في حِلم وإلا علم؟ تسامعت القرية، بأن الملائكة حامت فوق بيت خنفور، وأعلمته أن ذنبه مغفور، فأعجبته الهرجة، وتغيّرت قناعته، وما أصبح يوم عيد النحر، إلا الثور مكعور في الجرين، ويخور. أقسم العريفة على الفقيه بأن يعطي الشفرة لخنفور ليذكّي وقال له شريانه وآدمي سِفط وأضاف، ما سرني شبا حار في كف بارد، فقام من المصبّر، ونظر بعين الكسرة لثوره، وقال، تخور وإلا ما تخور، إنت مجبور، وأنا مجبور، وربك الرحيم الغفور.