لطالما كانت دهشتي كبيرة كلما جنحتُ في خيالي منذ الطفولة نحو أرض جزيرة العرب، أسرار أشعر بها وكأن الرمال غطت ذاكرة الأرض في هذه المساحة المباركة، التي علمتني عائلتي وأنا في تلك السنّ، أن أصولنا العائلية منها، فبدأت البحث في كتب كثيرة قرأتها عنها، وكبر حلمي وكبرت معي دهشتي.. المملكة العربية السعودية قارةٌ تخبئ كنوزاً لم تكتشف بعد، تنوعها الجغرافي والتاريخي والثقافي يعطيها أبعاداً جيوبوليتيكية تندر في منطقتنا، ربما تكون أرض المملكة هي أرض بداية قصة الحضارة الإنسانية، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب وفي القلب الذي يحمل الرؤية للمستقبل ويخبئ أسرار الماضي السحيق وعزة الماضي القريب وفخر التوحيد.. في هذه القارة السعودية تنوع عجيب كثيف قوي التأثير يحمل في كل بقعة قوة خاصة يجعل منها قوة عظمى في كل ما أعطيت من نِعم. صحيح أن في أرض الجزيرة العربية في التاريخ السحيق أسراراً لحضارات لم تكشف بعد، إلا أن التاريخ الإسلامي لم يشهد بزوغ دولة عظمى فيها منذ بدء رسالة النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى وقتنا هذا، وإن سطع نور الدولة الأموية القرشية المكية الأصل، إلا أن مقرها كان دمشق، وربما انتقل الأمويون في ذلك الوقت إلى مكان آخر ينطلق منه الحكم بحثاً عن الرخاء، وربما يكون تراجع قوة جزيرة العرب في وقتها بسبب عدم الغنى، إلا أن استمرار تأثيرها كان بسبب قدسية مكة والمدينة مما جعلها قبلة المسلمين جميعاً في أنحاء العالم. هذه الأرض التي أبت أن تُحكم من أي قوة عظمى خارجية عبر التاريخ، اليوم ولأول مرة لدينا فرصة بأن نكون قوة حقيقية تعيد الدور للجزيرة العربية، المملكة العربية السعودية هي جزيرة العرب بعمقها وسرها وامتدادها.. الغنى اليوم متوفر، وكذلك تنمية القوة السياسية المؤثرة عالمياً التي اعتمدته المملكة مؤخراً جعل منها ثقلاً سياسياً اقتصادياً يتطلع العالم كله إلى ميزانه أو ميزاته.. لدينا اليوم فرصة في إعادة قراءة التاريخ والحقيقة المخفية لجزيرة العرب تاريخياً وقبل الإسلام وما تحمله من أسرار، استعادة الدور الحضاري والثقافي إلى ما أبعد من اللغة والأدب.. تأسيس عاصمة حضارية للعالم في المملكة العربية السعودية تعود إلى جزيرة العرب، عكس ما فعل الأمويون الذين انتقلوا إلى دمشق بحثاً عن رخاء يؤسس للدولة.. الآن الرخاء موجود في الجزيرة، والقدسية في الجزيرة، وكشف التاريخ يفتح القدسية إلى أبعد.. إيجاد عاصمة حضارية ثقافية إبداعية فنية علمية حديثة تستقطب العالم على المستوى الحضاري المعاصر يستخدم التكنولوجيا كوسلية، يحدث من وراء ذلك قوة اقتصادية حديثة في زمن اقتصاد الفكر والمعلومات.. هذه الفرصة ربما تكون قد بدأت مع الإمام محمد بن سعود في تأسيس الدولة السعودية الأولى التي امتدت من مشارف بلاد الشام، وجزء من العراق، وصولاً إلى جزء من اليمن، وبعبقرية المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود توحدت البلاد والقبائل المتناحرة منذ آلاف السنين.. لكن اليوم ومع الرؤية التى أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، أصبح لدينا مشروع معاصر لدولة عظمى تمتد تأثيرها في منطقة الشرق الأوسط وتؤثر بقوتها إذا ما اكتملت الرؤية على العالم بأسره.. ربما لدينا فرصة اليوم أن تكون السعودية (جزيرة العرب) قبلة العالم بدءاً بالقبلة المقدسة، وصولاً إلى قبلة العلم والحضارة والثقافة والفنون والاقتصاد.. شكلت «رؤية 2030» رسماً بيانياً لمستقبل المملكة والمنطقة، ونقطة جذب يقتدي بها العالم.. وبِوحي من هذه الرؤية المتربعة على عرش مستقبل عظيم، طورتُ أفكاراً عديدة أحلم في تحقيقها في الأبعاد الثقافية تساهم في استكمال هذا المسار الرؤيوي، عبر إطلاق مشروع متكامل ينطلق من المملكة إلى العالم ومن العالم إلى المملكة إيماناً مني بأنها ستكون بمثابة بيان جديد، يقود إلى وجهة مختلفة على الكوكب، تضمّ أهم عناصر القوة لقيادة العالم، لا بل لتكون عاصمة العالم الجديدة، عاصمة للإبداع والموسيقى والفنون والثقافة، تؤثر في مفاهيم الكوكب الإنسانية وتسهم في استكمال حضارة الإنسان نحو المستقبل.. لقد جُلْتُ العالم كمؤلفة موسيقية وسوبرانو وباحثة حاملة موسيقانا عبر مشروعي الأوبرا العربية الذي وقفت من خلاله على مسارح العالم الكبرى، أثبت أن لغتنا لغة الإبداع والحضارة، وأن موسيقانا تاريخ ومستقبل.. وكنت أصر منذ التسعينات من خلال جميع محاضراتي حول العالم، أن أوروبا استُنفدت موسيقياً وذهبت إلى أقصى التجريب بحثاً عن صوتٍ موسيقيٍ جديد، وأن الصوت الجديد سيأتي من الشرق ومن موسيقانا العربية، لكن ذلك لن يتحقق من دون دولة عربية عظمى تقود هذا المشروع، فأتت رؤية 2030 والمملكة العربية السعودية العظمى بكل مقوماتها لتقود منطقتنا في الشرق الأوسط، وتحمل من خلال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ورؤية ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان، المشروع الوحيد في منطقتنا الذي يحمل جميع الأبعاد الاقتصادية بتأثيراتها السياسية وتغيرات الأسلوب السياسي الاستراتيجي؛ لتكون المملكة العربية السعودية المحرك لدور محوري تتوجه أنظار العالم إليه، وتكون منطقتنا، كما قال ولي العهد، أوروبا الجديدة، ونحن في ظل حرب عالمية وفي زمن التحولات التي تعيد تركيب الأنظمة السياسية وتحضر لنظام اقتصادي جديد، يختلف كل الاختلاف عما نعرفه من نظام اقتصادي بدأ مع انتهاء الحربين العالميتين الأولى والثانية.. لذلك ولأول مرة، أشعر أن لدينا أملاً في تحقيق «الصوت الجديد الذي سيأتي من عالمنا».. بعض المشاريع التي بحثت فيها هي أصل الموسيقى العربية بدءاً من جزيرة العرب، وصولاً إلى الأندلس.. مسارات وطرق أعمل على تحقيق أبحاثها، تكون جزءاً من مشروع ثقافي أكبر يثبت جذور المنطقة الثقافية في خضم مخاطر ثقافية كثيرة لحضارت عديدة.. لدينا في تاريخنا طرق ثقافية كثيرة نستطيع من خلال الموسيقى التراثية والكثير من الإبداعات التي ترافقها أن نضيء كل الحقائق التاريخية ونفتح من خلالها دبلوماسيات لها تاريخها الحضاري مع أرض المملكة.. إن الحلم الأكبر بالنسبة لي هو تصور كبير عملت على جميع وجوهه لجعل المملكة العربية عاصمة العالم الجديد إبداعياً وثقافياً وموسيقياً وفنياً، بكل وجوه الإبداع وفنون الخلق والأداء والفنون البصرية، وصولاً إلى العمارة.. إن العالم الآن ليس لديه عاصمة إبداعية في حين كانت لندن وفرنسا ونيويورك عواصم، وبرلين وميونيخ وفيينا عواصم أخرى، لم يبق اليوم في العالم الاستهلاكي الحديث قوة عظمى تقوم بهذا الدور، فقد انتزع التوجه الاقتصادي الحديث للعالم هذا الدور من أوروبا والغرب، ولم يعط بديلاً، وإن ما تشهده أوروبا وبعض المدن الأساسية الغربية من إنتاجات إبداعية هو فقط صدى لما كانت تمثله هذه المدن في القرن العشرين.. أرى المملكة العربية السعودية هي أملنا الوحيد لنحقق دولة عظمى عربية في هذا الزمن تنطلق ولأول مرة في تاريخنا منذ الإسلام من جزيرة العرب، من مملكة الرؤية، والتي لن يحققها إلا الحالمون.. نحن أمام فرصة فريدة لنكون عاصمة العالم الجديد الإبداعية وربما أكثر. [email protected] [email protected]