تندلع في كل مناسبة ثقافية حوارات المثقفين حول إشكالية الدعوات للمناسبات التي غدت دُولةً بين شلة الأصدقاء منهم، ويتطلع المثقفون لتحقيق نزاهة الدعوات؛ تفادياً لتكريس وتكرار أسماء بعينها في كل محفل، وعدّ البعض الشللية فساداً يحتاج محاسبة من يقف وراءه، إذ تأتي تفضيل أطراف على حساب آخرين لحاجة في نفس الداعي، أو لشعوره أنه فوق المساءلة، وهنا نفتح باب حوار حول أثر الشللية على الحراك الثقافي تحت مظلة وطن لا يفرّق ولا يمايز بين مواطنيه إلا بالإنتاج والتميز. الناقد أحمد بوقري يرى أن الشللية عاهة مستفحلة في واقعنا الثقافي، والأسوأ منها حين يتقبلها بعض المثقفين المبدعين والنقاد المعروفين طائعين، ويستسلمون لها، وتصبح هي القاعدة الأساسية لهم في العمل الثقافي العام. ولفت إلى أن العلاقات الشخصية والنفعية بين المبدعين والمثقفين تصبح عبئاً ثقيلاً على الحياة الثقافية، وتخلق مشهداً ثقافياً مشوهاً قليل القيمة الإبداعية والفكرية بحكم أن النفعية والمصالح الشخصية تغدو المدخل الضروري للانخراط في الفعل الثقافي، ومن هنا تنشأ حالات التهميش والإقصاء والتغييب، فلا يأخذ المبدع الحقيقي والموهوب حقه من الظهور والتقييم والاعتراف الأدبي. وأضاف: ربما نقبل -على مضض- بعض الشلليات المنتجة والفاعلة في محيط دائرتها الإبداعية؛ ومنها، على سبيل المثال، جماعة قصيدة النثر في عالمنا العربي ومجلاتها ونتاجاتها، أو شللية المثقفين المنتمين لبعض التيارات السياسية اليسارية أو اليمينية، أو شللية النقاد الأكاديميين المنعزلين عن الواقع الإبداعي المحيط، إذ نقبلها رغم أنها تمارس إقصائية لتيارات ومدارس أدبية مغايرة، وتسقط لاحقاً في الفساد الثقافي. وعدّ بوقري الشللية فساداً ثقافياً حقيقياً مقيتاً شأن أي فساد مالي أو سياسي، يصيب مؤسسة ثقافية رسمية أو هيئة أدبية ونشرية فيحتكر العمل في مجموعة محددة ويكرّس بعض الأسماء والرموز الأدبية، في ظل إقصائية تامة لعناصر المشهد الثقافي برمته. وقال: علينا أن نرفع الصوت ونشير بالأصبع إلى أنّ هذا فساد غير مقبول، وعليه ينبغي المحاكمة الأخلاقية او إزاحة المقترفين له. وتطلّع لتعزيز دور المؤسسة الثقافية؛ أندية وجمعيات وملتقيات ومهرجانات وندوات ومعارض بأن تكون للجديرين، وللأكفاء والمجيدين، وليست حكراً لقلة محدودة تتكرر وتتكرس في كل الفعاليات والأنشطة؛ كي لا نخلق مجتمعاً محتقناً مغبوناً لا يستطيع أن يسهم في تطوير الحالة الثقافية بما يخدم الرؤى الاستراتيجية والتنموية. ودعا إلى تقييم الحالة الثقافية عندنا، وهل هي صحيحة معافاة أم مريضة؟ الجبيري: قاعدة بيانات لمعالجة الإشكالات من ناحيته، ذهب القاص ظافر الجبيري إلى أن الشللية مرض اجتماعي، يرتكز على تقديم الشلة والأصدقاء على من سواهم ويكون ذلك دون وجه حق غالباً، موضحاً أن مفهوم الشللية يتسع ليدخل في مجالات الحياة.. تقريب أناس وإبعاد آخرين، فالمرضيُّ عنه في مجال ما كتوظيف أو فرصة من الفرص أو دعوة إلى (وليمة ثقافية أدبية) كما في هذا المحور، يكون هو الفائز بالحظوة والمقرب من الداعين أو المتنفذين. ويرى الجبيري أن أثرها سلبي، كونها تورث الإحباط وتفسد العلاقات، وربما توغر الصدور، وتكرّس الهزال الأدبي والضعف الثقافي والمعرفي، إضافةً إلى أنها تحرم المستحق من تكافؤ الفرص عندما تطلّ الواسطة بوجهها الكالح في الشأن الأدبي والملتقيات الثقافية عبر الفجوات القائمة بسبب تقديم (الشلة) على من سواهم، وعدّ الشللية فساداً ثقافياً، كونها تفرز في الغالب شللية مضادة ما يؤدي إلى انتشار العلاقات غير السوية المليئة بالشحناء وتصفية الحسابات ما يدفع (غيرالمشمول) بالشلة إلى الانزواء زاهداً محبطاً فاقداً الأمل في ساحة ثقافية نقية من التجاهل؛ لانعدام تكافؤ الفرص. وأضاف: الشللية تأتي على رأس الفساد الأخلاقي والمؤسساتي، وتكون المشكلة أكبر في المجال الثقافي، إذ يتم تمرير هذه الأمور بعبارات منمقة وابتسامات غير صافية، ويراها مرضاً يجب إيقافه؛ لأنها تقع في صلب التمييز العنصري بمعناه الواسع، ويرى أن إيجابية الشللية في سقوطها، ليقوم على أنقاضها شلة جديدة تنصف بالدعوات مَن لم ينصفوا من قبل. واقترح الجبيري لحل إشكالية الشللية والقضاء عليها الاعتماد على قاعدة بيانات لأسماء الكتاب والمثقفين على مستوى الوطن، وتحديثها باستمرار، وتجديد أسماء القائمين على التنظيم وتوجيه الدعوات، ومراجعة الجهات الرسمية الداعية للأسماء المكررة ومساءلة المسؤولين عن ذلك عند أية شبهة محسوبية، والاستعانة بذوي الخبرة من الكفاءات ذات الإلمام بالأسماء الفاعلة من الكتاب والأدباء، والطلب من الحاضرين والحاضرات للفعاليات ترشيح أسماء أخرى ممن لم يحضروا لدعوتهم في الفعاليات القادمة. وتذهب الشاعرة المغربية ليلى بارع إلى أنه لا يمكن إنكار حقيقة الشللية في كل الأوساط الثقافية العربية، وأرجعت السبب إلى مفهوم الجيل والمعاصرة في مجال إبداعي معين، كونه تجمعه غالباً نفس الخلفية والظرفية الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تمهد لتميزه إبداعياً ونقدياً في مواجهة جيل سابق، وذهبت إلى أن جزءاً أو مجموعات معينة من هذه الأجيال تعتبر نفسها جديرة بالتواجد على الساحة الثقافية لوحدها متعمدة إقصاء جيل جديد قد يسعى للقتل الرمزي لمن سبق. وترى أن الشللية قائمة على الإقصاء المتعمد لأسماء دون أخرى، ما دفع بعض الكتاب المغاربة، قبل أكثر من عشر سنوات من الآن، خصوصاً الشعراء للنشر خارج المغرب في مجلات وملاحق وصفحات ثقافية لجرائد مشهود لها بالأهمية الثقافية لانتزاع الاعتراف بهم. وأضافت: أن الشللية لا يمكنها التغول إلا إذا كان هناك سوء نية كبيرة لدى بعض المؤسسات والإطارات التي أسستها، وعدت الكتابة الجيدة، قادرة على توفير نوافذ تطل بها على العالم الواسع للنشر والكتاب، وتطلعت إلى تسامي الكاتب بأن لا ينظر لنفسه باعتباره ضحية الشللية، فكل جيل جديد عليه صناعة قدره الثقافي بكامل الإمكانات المتاحة له، مهما استغرق ذلك من وقت. ويرى الشاعر عبدالرحمن سابي أن المصداقية في الوقوف على جوهر هذه الحقيقة السوداء والموغلة به تجعل الغصة لا تغادر صاحبها في ظل الممارسة الفعلية للسلبية المصاحبة لمفهوم الشللية الثقافية ودورها في إقصاء الكثيرين ممن يستحقون الحضور الفعلي في المشهد الثقافي بشتى برامجه محلية كانت أو خارجية، ودعا القائمين وأصحاب التواقيع النظر مراراً فيما يقدم لهم من أسماء؛ لتفادي التكرار وتجاوز القوالب المؤطرة بها في كل محفل أو مشهد ثقافي ذاك أن الواقع مليء وجمّ بمن يملك وعياً معرفياً ونتاجاً يشفع له بالتواجد والمشاركة الفاعلة والمثمرة والخارجة عن المألوف والسائد في الكثير من المشاهد الثقافية الدورية. وذهب سابي إلى أن وزارة الثقافة معنية بالمقام الأول للتصدي لهذه العنصرية المقيتة من خلال قاعدة البيانات التي تملكها وتحصي بها المثقفين وطبيعة ما لديهم من معارف متعددة ونتاج وتفاعل، ودعوة من يسهم بإضافة قيمة للفعل الثقافي وهي الحال نفسها مع المؤسسات الثقافية الحكومية والخاصة بعيداً عن نفعية وتبادلية المعرفة الشخصية، لتتحقق العدالة الثقافية الخادمة لجميع المثقفين والسائرة بالمشهد الثقافي للمثالية البيضاء. السماح عبدالله: الشللية عنقودية وقال مدير بيت الشعر المصري السمّاح عبدالله: الشللية عموماً مضرة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالعمل العام، الذي من طبيعته التعدد والتنوع والاختلاف، لكنها، للأسف، موجودة في واقعنا الثقافي، إدارياً وأدبياً، فالمسؤول يأتي إلى منصبه الجديد، ومعه صحبته من أهل الثقة، يبعد هؤلاء ويقرب أولئك، وصحبته بدورهم لكل منهم صحبته، وهكذا، تبدو الشللية عنقودية الطابع، لقد شاع في عصر وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني مصطلح (حظيرة المثقفين)، وهو مصطلح معيب، ودلالاته أكثر عيباً، لكنه كان مصطلحاً فاعلاً، وقد قامت سياسته عليه، فأدخل عدداً كبيراً من المثقفين في حظيرته، ومنحهم من عطاياه ما منحهم، لكننا نتذكر أيضاً الصوت ناصع البياض الذي رفض هذه العطايا، وأعلنها صريحة في عقر دار الوزير، إنه المبدع صنع الله إبراهيم الذي رفض التدجين، بامتناعه عن دخول الحظيرة. لكن الأمر لا يخلو من جانب آخر يمكننا أن ننظر إليه، وهو جانب (القضية الأدبية). لكن هذا الجانب بطبيعته عمل خاص، وليس عملاً عاماً، وبالتالي تصبح الشللية فيه واجبة، بل تصبح فرضاً، حدث هذا كثيراً في الثقافة العربية، حدث في لبنان مع جماعة شعر، وحدث في مصر مع مجلة جاليري 68، وجماعة إضاءة وجماعة أصوات، مجموعة من المبدعين، يؤمنون بقضية فنية واحدة، لها شكلها المتفق عليه، وتجلياتها الإبداعية التي أخذت منهم نقاشات طويلة حتى استقروا على ملامحها النهائية، وبدأوا يكتبون على أساس من هذه القناعات الفنية، هنا الشللية محمودة، لأنها تؤصل لمبتغى فني، على من يحاول أن ينضم إليهم أن يكتب مثلهم. أما العمل العام، فلا بد أن يتسم بالموضوعية، وإتاحة الفرصة للجميع من المبدعين الجيدين، وأرجو التأكيد على كلمة (الجيدين)؛ لأنه في النهاية هناك كتاب جيدون، وهناك كتاب غير جيدين، والخبزة الثقافية لا بد أن توزع بالعدل، والعدل الذي أقصده، قد يكون هو حرمان غير الجيدين من هذه الخبزة أصلاً؛ لأننا لا ينبغي أن نتعامل مع الثقافة كما نتعامل مع أنبوبة البوتاجاز، فهذه أشياء نشترك جميعاً في حاجتنا إليها، أما الثقافة فلكي تكون عادلة بين المبدعين ينبغي أن يكون المبدعون متساوين، وهم ليسوا كذلك.