لا شك أن هناك تداعيات عدة وآثاراً مختلفة، محلية وإقليمية وعالمية، تتعلق بالأزمة العالمية الأكبر في الوقت الحالي، وهي حرب روسيا ضد أوكرانيا. ونتطرق اليوم لبعض هذه التداعيات الماثلة والمحتملة لهذه الحرب. فهذه الأزمة فرضت على العالم كله، وإن بدرجات متفاوتة، تحديات شائكة عدة. هناك تحديات: سياسية، اقتصادية، عسكرية، أمنية، تقنية، صحية، غذائية، جيوسياسية، اجتماعية، إعلامية، بيئية؛ أي أنها تداعيات، أو تحديات في كل جوانب الحياة العامة، تقريباً. صحيح، أن معظم هذه التحديات، ما زالت «محتملة» (متوقعة) وليست حالة، ومتواجدة فعلاً. ولكنها شبه واقعة. وإن تفاقمت وتصاعدت الحرب، ستتفاقم هذه التداعيات. ويُعتقد أن هذه الحرب قد طالت، بأكثر مما كان متوقعاً. وقد تضع أوزارها قريباً، ما لم يتدخل حلف ناتو مباشرة (وهو أمر مستبعد، حتى الآن) أو غير مباشرة، كما يفعل الغرب الآن، عبر تقديم أسلحة متنوعة ومتطورة لأوكرانيا. **** لقد حدد الروس مطالبهم «الأمنية» الحالية، تجاه أمريكا والناتو وأوكرانيا، وملخصها: الالتزام بعدم نشر الصواريخ في وسط وشرق أوروبا، وعدم توسع حلف ناتو شرقاً، وعدم ضم أوكرانيا لحلف ناتو، إضافة الى رفع العقوبات الاقتصادية الغربية عن روسيا، والاعتراف بروسية شبه جزيرة القرم، وتمكين سكان شرق أوكرانيا من الاستقلال، أو الحكم الذاتي. ولم يستجب الغرب لأي من هذه المطالب، ويبدو أنه لن يستجيب. فكان الاكتساح الروسي لأوكرانيا، يوم 24 فبراير 2022م، ومازال مستمراً. رد فعل الغرب (ناتو) كان، وما زال، هو: الشجب ووضع عقوبات مشددة على روسيا، وشيطنتها سياسياً وإعلامياً. إضافة الى تقديم مساعدات عسكرية، واقتصادية، وإنسانية كبرى، لأوكرانيا. ولم تصدر عنه أي بادرة تفاهم جاد. الأمر الذي يجعله منخرطاً في هذه الحرب، وإن بطريق غير مباشر. يعلن الناتو أن الغرب لن يغامر بالدخول في حرب مباشرة مع روسيا، تفضي لحرب عالمية شاملة، ولكنه لن يترك أوكرانيا وحدها؟! ثم نراه «يمعن» في التوسع شرقاً، بقرب ضم كل من فنلندا والسويد لعضويته. وينبئ الواقع أن هناك الآن أربعة «سيناريوهات» (احتمالات): انتصار روسيا، وتحقق معظم، أو بعض مطالبها، انتصار أوكرانيا، رغم الدمار الهائل الذي ألحق بها، تدخل الناتو مباشرة إلى جانب أوكرانيا، وبالتالي قيام الحرب العالمية الشاملة (والأخيرة)، انتهاء هذه الأزمة عبر اتفاقية تحقق لروسيا مطالبها، عبر تفعيل اتفاقية عدم نشر الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى في وسط وشرق أوروبا، وعدم ضم أوكرانيا لحلف ناتو، مع تعهد روسيا باحترام سيادة واستقلال أوكرانيا. ويبدو أن الاحتمال الرابع هو الأقرب للحصول. وتظل روسيا محقة، في نظر أغلب دول العالم؛ لأنها تدفع خطراً فادحاً محتملاً، ومبيتاً. أما أوكرانيا، فإنها تدفع ثمن حماقة وعمالة حكومتها، واستخدام هذا الغرب لها، كحصان طروادة، ضد روسيا. وبخروج روسيا «منتصرة» في هذه الحرب، سيسود العالم نظام «التعدد القطبي»، رغم استمرار القطب الأمريكي (الوحيد سابقاً) في المركز الأول، يليه القطب الصيني فالروسي. هذا، ويتوقع قيام تحالف صيني- روسي، أو ناتو روسي- صيني، لمواجهة الناتو الغربي. وربما يتم تحويل معاهدة «الدفاع الجماعي» إلى حلف، يشمل روسيا والصين، والدول الحليفة لهما. **** وبالعودة للتداعيات، نذكر أن مجلة «لو بوان» (Le Point) الفرنسية أوردت مؤخراً تقريراً عن بعض أهم التداعيات الغذائية لهذه الأزمة، وهي: نقص الغذاء الأساسي المصدر من روسياوأوكرانيا إلى منطقة الشرق الأوسط بخاصة. جاء في المجلة المذكورة أن روسياوأوكرانيا تصدران ما يعادل ثلث صادرات العالم من القمح والشعير، وغيرهما. الأمر الذي يعطي هاتين الدولتين نفوذا، و«سلاحا (غذائياً) له آثار تدميرية، تشبه آثار تدمير الأسلحة النووية» - كما جاء في المجلة. وأن هذه المنطقة، التي تؤوي 4% من سكان العالم، تستورد معظم احتياجاتها من القمح من روسياوأوكرانيا. في حين تسبب حرب روسيا على أوكرانيا توقف الأخيرة عن الزراعة طيلة الموسم القادم 2022- 2023م، وربما ما بعده. وهذا يعني وقف صادراتها من هذه المادة الغذائية الحيوية. وسبق أن توقع الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيرس» بأنه سيكون من تداعيات هذه الحرب حدوث نقص في المواد الغذائية، يفاقم من معاناة فقراء. الأمر الذي ربما يؤدي إلى عدم الاستقرار، ونشوب الاضطرابات في بلادهم. ولكن، يظل أكبر وأخطر تداعيات هذه الحرب هي ارتفاع احتمالات حصول الكارثة الأكبر... وهي الاصطدام الهائل المباشر بين روسيا وحلف ناتو، وحدوث ما لا تحمد عقباه؛ أي الهلاك لمعظم ما على الأرض. **** وعلى المنطقة العربية أن تدرك الآن أن للولايات المتحدة منافسين أنداداً، يريدون أن يشاركوا أمريكا في «كعكة» المنطقة؛ فالصين خاصة بحاجة ماسة لنفط وغاز المنطقة. وتهتم روسيا بالمنطقة، لأسباب عدة، أهمها: قربها من روسيا، وإمكانية الحصول فيها على موانئ دافئة، مثل ما حصلت عليه في طرطوس السورية، ولكون المنطقة مهمة لأمريكا، وبقية القوى الكبرى. أصبحت الولاياتالمتحدة مكتفية ذاتياً من النفط والغاز، وبالتالي لم تعد في حاجة مباشرة لهما. ولكنها تظل مصممة على التحكم في انسيابه لأصدقائها وأعدائها، والاستفادة من عوائده، قدر الإمكان. ولذلك، ستبقى أمريكا بالمنطقة، ولكن بزخم أقل. وستركز إمكاناتها العسكرية والدبلوماسية، من الآن وصاعداً، على المحيطين الهندي والهادي، الملاصقين للصين، وما جاورهما. ومهما كان وضع النظام العالمي، والعلاقات فيما بين أقطابه، وعلاقة كل قطب بدول المنطقة، فإن شعوب ودول المنطقة، يمكنهم (إن أرادوا، وطبعوا أوضاعهم السياسية، وتضامنوا) حماية أمن واستقرار واستقلال وتطور بلادهم، ذاتياً، وضمان بقائها وازدهارها، في النظام العالمي، الذي سيسود عقب انتهاء أزمة أوكرانيا.