ذهب الوقت الذي كانت تحدث فيه الانقلابات العسكرية باستخدام الدبابة والسيطرة على مؤسسات الدولة، بدءاً بمباني الإذاعة والتلفزيون لإعلان البيان الأول. لقد تطور تدخل العسكر في الحياة السياسية، لأقل مستوىً من استخدام القوة الصلبة وب«تكتيكات» أكثر نعومة وأقل ضجيجاً. لا يمكن تصور ما حدث في باكستان، مؤخراً، من تغيير ناعم للنخبة السياسية الحاكمة، بعيداً عن الجيش. باكستان، كما هو معروف، تأخذ بالنظام البرلماني، حيث البرلمان هو مركز السلطة الرئيس. بينما السلطة التنفيذية (الحكومة) تحكم نتيجة تمتعها بالأغلبية المطلقة من مقاعد البرلمان (50% + 1)، وتبقى في الحكم طوال خمس سنوات، طالما احتفظت بالأغلبية، ولم تتفوق عليها المعارضة في عدد مقاعد البرلمان. وحتى تردع الحكومة البرلمان من ممارسة هيمنته المطلقة عليها، فإن صيغة الفصل بين السلطات، تخول الحكومة عند تطور أي خطر على بقائها في الحكم أو حتى لمجرد رغبتها في تعزيز وزنها في البرلمان، لها أن تطلب، في أي وقت، من رئيس الدولة حل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة. ليس في النظام البرلماني، ما يخول المعارضة إذا ما فقدت الحكومة الأغلبية البرلمانية، أن تشكل حكومة جديدة، دون أن تمر بمرحلة الانتخابات المبكرة. حتى أنه في حالة استقالة الحكومة نتيجةً لحجب الثقة عنها تبقى في السلطة، حتى وقت إجراء الانتخابات المبكرة، بل تُكلف بتنظيم الانتخابات المبكرة، لا أن تتولى المعارضة الحكم بدلًا عنها. لذا، عندما ناورت حكومة عمران خان، لتجاوز حجب الثقة عنها من قبل البرلمان، بالطلب من رئيس الدولة حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة خلال تسعين يوماً، فإنها كانت تتبع آلية عمل النظام البرلماني، التي لا تسمح بتقلد المعارضة للسلطة، لمجرد أنها قلبت موازين القوى داخل البرلمان، ومن ثَمّ تشكيلها لحكومة بديلة. لكن قبول عمران خان بحكم المحكمة الدستورية العليا، يشير إلى وجود عامل عدم استقرار دستوري إضافي في النظام السياسي (البرلماني) الباكستاني. النظام البرلماني، كما هو معروف يفتقر للاستقرار السياسي، خاصةً إذا كان يأخذ بنظام تعدد الأحزاب، كما هو الحال في باكستان، ويزيد من عدم استقراره، لو جرى أي إخلال بصيغة الفصل بين السلطات، مثل ما حدث من تدخل السلطة القضائية، في الصراع بين الحكومة والمعارضة، وقاد لإسقاط حكومة عمران خان، وما تبع ذلك من استقالة نواب حزبه، ولجوئهم لخيار الشارع. كل تلك التطورات تعزز من حالة عدم الاستقرار في المرحلة المقبلة، خاصةً وأن حكومة المعارضة الجديدة هي حكومة أقلية، تتشكل من ائتلاف هش من 11 حزباً بين مكوناته من الاختلاف أكثر مما بينهم من الاتفاق. هذا القصور المركب في النظام البرلماني الباكستاني، هو الذي يسمح بقوى من خارج مؤسسات الدولة الرسمية، الجيش بالذات، أن تهيمن على المشهد السياسي، بعيداً عن الإرادة العامة، التي تحددها آلية الانتخابات العامة. الجيش في باكستان هو (تاريخياً) الحاكم الفعلي للبلاد، وما الممارسة الديمقراطية سوى طقوس شكلية، أضحت مؤخراً توفر على الجيش شبهة التدخل الصلب في تقرير مصير السلطة في الدولة، إذا ما أُتيح لقادة الجيش، من خلال شكليات الممارسة الديمقراطية هذه، التحكم بمقاليد السلطة الحقيقية، بوسائل أكثر نعومة، وأقل ضجيجاً. إلا أن الممارسة الديمقراطية في باكستان تكتسب مع الوقت أرضية أكثر صلابة، بينما الجيش يشتد نفوره من ممارسة السلطة بصورة مباشرة وفجة، بتفاديه ممارسة الحكم مباشرةً، اعتماداً على الوسائل التقليدية الخشنة في الوصول إلى السلطة، واحتكارها.