تقوم النظرية الليبرالية على مبدأ سيادة الإرادة العامة. وآلية التعرف على الإرادة العامة، هي: الانتخابات. عن طريق الانتخابات يختار المواطنون ويستبدلون ممثليهم (نوابهم) رموزاً لحكم المجتمع وفرض سيادة الدولة. من أهم شروط الانتخابات التأسيس على معادلة صوت واحد للشخص الواحد. لكن: مَنْ هو هذا الشخص الواحد الذي يكون له صوت واحد. ثم هل يعد الانتخاب امتيازاً أم حقاً أم واجباً. قديماً كان يعتبر الانتخاب امتيازاً قاصراً على نخبة معينة من المجتمع، يحتكرون تداول السلطة بينهم.. ثم تَحَوّلَ إلى حق لكل مواطن، عندما جرى توسيع نطاق المشاركة السياسية في المجتمعات الحديثة. وتبقى أنظمة سياسية ترى الانتخاب واجباً على كل مواطن، يُجرم قانوناً، مَنْ يتقاعس عن القيام به. لكن يظل الانتخاب هو الآلية الوحيدة، التي تعكس توجه الإرادة العامة، حتى يمكن توكيد مبدأ السيادة الشعبية. إلا أنه حتى في الأنظمة الديمقراطية العريقة يظل مفهوم السيادة الشعبية، ومعه التحكم في السلوك الانتخابي للمواطنين مسرح صراع سياسي بين النخب الحاكمة، قد يتطور للتأثير على نتيجة الانتخابات، وربما ينتهي الأمر به بعيداً عن الإرادة العامة، وبالتالي: النيل من مبدأ السيادة الشعبية، نفسه. يمكن للساسة أن يحددوا مَنْ الشخص الذي يمارس امتيازه أو حقه أو واجبه الانتخابي، ليتجه نحو خدمة مصلحة حزب أو تيار أو تنظيم أو تجمع سياسي بعينه. هذا ليس حكراً على الأنظمة السياسية التي تأخذ بطقوس الديمقراطية، بعيداً عن جوهرها السياسي والأخلاقي والقانوني، كما هو الحال في الأنظمة الشمولية والسلطوية والفاشية، ومعظم دول العالم الثالث، بل أيضاً تلك التي تزعم الديمقراطية، من بين مجتمعات الغرب الليبرالية المتقدمة. في الولاياتالمتحدة، على سبيل المثال: يُثار، هذه الأيام، جدلٌ سياسيٌ محتدمٌ بين الجمهوريين والديمقراطيين، لإصدار قانون للحق الانتخابي فيدرالي موحد، ينال من هيمنة الولايات على العملية الانتخابية. الجمهوريون يعارضون مثل هذا القانون، لأنه ببساطة: يوسع من نطاق المشاركة السياسية، لتشمل جميع فئات المجتمع الأمريكي، الذي تتزايد فيه أعداد الفئات المجتمعية للأقليات، على حساب هيمنة الجنس الأبيض الأنجلوسكسوني البروتستانتي (WASP). من هنا جاء مفهوم الأصوات الصحيحة، عند الجمهوريين، الذي كان يمثل محور جدلهم في زعمهم بتزوير الانتخابات الرئاسية الأخيرة. الأصوات الصحيحة عندهم، هي: تلك التي تُدلى يوم الانتخابات شخصياً، في الساعات المحددة لذلك منذ بدء فتح صناديق الاقتراع، لحين غلقها. لذلك لا يعتبرون الاقتراع المبكر، ولا الاقتراع بالبريد، ولا الاقتراع الإلكتروني، حتى اقتراع الغائبين عن دوائرهم، أصواتاً صحيحة. عن طريق التحكم في ترسيم الدوائر الانتخابية ولوائح التسجيل وتحديد أماكن لجان الاقتراع ومدته ووقته، والإصرار على إجراء الانتخابات في أيام الأسبوع العادية وليس أيام العطلات يوم الأحد بالذات، حتى لا يخرج الناس من الكنائس بمجموعات كبيرة رأساً للجان الانتخابات، يضمن الجمهوريون حرمان كثير من المواطنين من ممارسة حقهم الانتخابي. وبالتالي: اكتساح نتيجة أية انتخابات. في الولاياتالمتحدة هناك أكثر من نصف مليون رمز وموظف عام منتخبون، لو تم تمرير قانون «فدرلة» الانتخابات الموحد، سيفقد الجمهوريون نصيباً كبيراً من الحكومة، على مستوى الاتحاد والولايات والمقاطعات والمدن. مبدأ صوت واحد للشخص الواحد، هو الكذبة الكبرى في الممارسة الديمقراطية للمجتمعات الليبرالية المتقدمة. في الولاياتالمتحدة يظل الانتخاب ليس حقاً للجميع، بل هو امتياز للنخبة، في واشنطن ونيويورك، لترسيخ سيطرة الساسة ورأس المال، وليس لتوكيد سيادة الشعب.