منذ أن تبلورت دولة القانون في القرون الكلاسيكية أنتجت على الصعيد الايديولوجي أطروحات متناقضة حول الليبرالية والحرية والديموقراطية. ويمكن القول أن هناك ضلالاً سائداً في الفكر العربي يرتكب خطأ مماثلة الرأسمالية بالليبرالية. واعتبار الأخيرة الشكل النهائي للحكومة البشرية له نوعان من المصادر، الأول اجتماعي - طبقي، والثاني غنوزيولوجي معرفي. والخطأ الذي ينبغي الاحتراز منه هو ربط الليبرالية كما تحددها مكوناتها التاريخية والديموقراطية بالرأسمالية، في حين أن الليبرالية التي ارتبطت بحرية المشروع الاقتصادي أو بنظام الانتاج الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، اتخذت في سيرورة تطورها وارتقائها خطين متعارضين، أحدهما يرقى في اتجاه الديموقراطية والديالكتيك، حيث بقي التعارض بين الليبرالية والديمقراطية حياً واكتسب مزيداً من الجدة جراء بروز مكتسب توسع الاقتراع العام والمشاركة في السلطة السياسية ودخول الحركة العمالية إلى الحلبة السياسية، وهي حركة ظلت تزيد من استلهامها للمذاهب الاشتراكية والماركسية المتناقضة مع الليبرالية. وينسجم الخط الثاني مع الوثنية الرأسمالية التي تشكل منذ نشأتها نظاماً رأسمالياً عالمياً مترابطاً ترابطاً بنيوياً، ويتسم باستقطابات واضحة، ويسعى إلى التراكم الرأسمالي المتعاظم، ولاتكافؤ التطور في ظل الصراع والتنافس. وتختزل الحرية في جانب واحد متمثلاً بالحرية الاقتصادية التي تشترط مسبقاً التزاماً صارماً بالملكية الخاصة لوسائل الانتاج، وتمارس تشييء العلاقات البشرية واستغلال شعوب العالم الثالث، وتحصر الليبرالية في مستنقع الوضعانية مفسحة في المجال لهيمنة التيارت اللاعقلانية والظلامية في مركز النظام الرأسمالي، حيث تشكل النازية والفاشية أشد صورها قتامة وفظاظة. لكن الحرية الليبرالية التي رفعت في قلب المجتمع الغربي، وفي عصر النهضة العربية الأولى، لم تعد من مسلمات ذلك المجتمع وذلك العصر، بل سيكون نقد ذلك الشعار منطلقاً لطرح مسائل جوهرية حول الحرية كمفهوم مجرد مطلق على حد قول عبد الله العروي. الديموقرطية ليست الليبرالية، ولكن يمكن تحديد مسار العلاقات بينهما بالاستناد إلى ثلاث صيغ: 1- التعايش بما يعني امكان وجود دولة ليبرالية وديموقراطية في الوقت عينه، من دون استيعاب وجود دولة ليبرالية غير ديموقراطية، كما يراها الليبراليون المحافظون، ودولة ديموقراطية غير ليبرالية كما يراها الديموقراطيون الثوريون الراديكاليون. 2- الديموقراطية في تناقض مع الليبرالية، أي أن الديموقراطية لا يمكن تحقيقها كاملة إلا في دولة تحقق العدالة الاجتماعية وتقبل بالتخلي عن نموذج الدولة الليبرالية، وهذا هو رأي الديموقراطييين الثوريين الراديكاليين. 3- الترابط الضروري بين الليبرالية والديموقراطية، بمعنى أن الديموقراطية وحدها قادرة على التحقيق الكامل للنموذج الليبرالي الأمثل، وأن الدولة الليبرالية هي القادرة على توفير فرص وضع الديموقراطية موضع التنفيذ. شهدت المجتمعات الغربية الصناعية ولادة نموذج الدولة الليبرالية سيطرت فيها الايديولوجية الليبرالية التي ترتب السياسة على أساس مبدأ العقلانية وتنظيم حرية المشروع الاقتصادي على قاعدة"العقلانية الاقتصادية"، التي فكت ارتباطها بالعقلانية عموما في مرحلة الدولة الاستبدادية لرأس المال الاحتكاري، وما قادت إليه من اتجاهات لاعقلانية في المشروع الثقافي الغربي، ودولة القانون على صعيد السياسة. ومع ذلك ترتكز دولة القانون على المبادئ الآتية: 1- الفصل بين الدولة والمجتمع المدني ويمكن تسميته بالإنفصال الخارجي بما يعني استقلالية الدولة تجاه المصالح العامة والطبقات والحياة الاقتصادية. 2- تحديد العلاقة القانونية بين الدولة والمجتمع بواسطة الانتخابات التي أصبحت حقاً ديموقراطياً بالنسبة للمواطنين الذين يتعين عليهم انتخاب حكامهم، باعتبار أن الانتخابات الديموقراطية هي المصدر الحقيقي والأصلي لشرعية السلطة السياسية، وان مشروعية السلطة لا يمكن أن تكون خارج الإرادة الشعبية والانتخابات بوصفها قاعدة للديموقراطية. 3- المساواة أمام القانون: لما كانت الديموقراطية كمفهوم سياسي مدني ومديني، نسبة إلى المجتمع المدني والمديني في آن، مرتبطة عضوياً بالعقلانية والحرية، بوصف الديموقراطية ممارسة للحرية بما هي وعي الضرورة، فإن أحد أركان هذه الديموقراطية السياسية تقوم على المساواة أمام القانون لجميع المواطنين، بصرف النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الانتماء الفكري أو السياسي، باعتبار أن المساواة أمام القانون وسيادة القانون على الحاكم والمحكومين تشكلان مظهراً من مظاهر ممارسة السياسة بوصفها مجموعة من الحقوق والواجبات الملقاة على عاتق المواطن الحر، العضو في الدولة السياسية وفي المجتمع المدني على حد سواء. 4- تقوم دولة القانون على مبدأ المغايرة والاختلاف والتباين والتعدد وحق المعارضة، وتقبل بوجود حقيقة المغايرة المقترنة بالاعتراف بحقيقة التعددية للقوى والتيارات والأحزاب السياسية، والطبقات والفئات الاجتماعية والاتجاهات والمذاهب الفكرية والأيديولوجية واختلافها وتناقضها في إطار سيرورة وعي نسبية الحقيقة، وإمكان خطأ الذات ووعيها بدلالة الآخر كخطوة حاسمة في الطريق الصحيحة نحو المجتمع المدني. وهكذا تقبل دولة القانون الليبرالية بوجود كل الأحزاب على اختلاف مشاربها الفكرية والايديولوجية، شرط ألا تشكل هذه التعددية السياسية خروجاً عن إطار الدولة البورجوازية ذاتها التي تراه خروجاً عن القانون. ففي حال الأحزاب الماركسية التي يتمحور برنامجها حول تحقيق سياسة اقتصادية واجتماعية تقوم على العدل الاجتماعي وتتناقض جذرياً مع الدولة الليبرالية، يصبح وجودها غير مرغوب فيه. وليس غريباً أن تحرم بعض الدول الليبرالية وجود أحزاب شيوعية في بلادها كالولايات المتحدة. 5- تقوم دولة القانون على مبدأ فصل السلطات. ويجمع الحقوقيون وعلماء السياسة أن دولة القانون التي عرفت في العهود الكلاسيكية الليبرالية طرأت عليها تغيرات عميقة أدخلت عليها مفاهيم سيادة الديموقراطية والمبدأ الانتخابي وفصل السلطات واستقلالية القضاء، بسبب انتقال المجتمعات الصناعية الغربية من مرحلة الرأسمالية التنافسية إلى مرحلة الرأسمالية الاحتكارية، وإن كانت الأشكال المؤسسة للدولة الرأسمالية الاحتكارية حافظت على أشكال الدولة الليبرالية. الثورة الديموقرطية البورجوازية في الغرب استطاعت أن تغير وجه التاريخ والعالم والأرض نفسها، وأن ترسي ديموقراطية اقترنت بظهور طبقة بورجوازية ثورية جديدة، لكنها لم تحقق كل حلمها التنويري الثوري، وإن كانت حققت تحولاً ثورياً، كان حتى هذا الوقت الأكبر في التاريخ، ولم تتجاوزه ديالكتيكياً الثورات البلشفية الروسية والصينية، وكرست قيماً جديدة كالحرية والمساواة أمام القانون والحماية القانونية للفرد ولأمنه، وبنت دولة حق وقانون كأساس منطقي للديموقراطية، ذلك أن دولة الحق هي الشطر الرئيس لولادة دولة ديموقراطية، فلا ديموقراطية بلا دولة حق تعني أولاً وأساساً سمو القانون بدءاً من الدستور مروراً بمعظم القوانين الأخرى. إذا كانت دولة الحق أسست لفكرة سمو القانون والدولة والديموقراطية في الغرب، فإن الدولة العربية المعاصرة تتسم بسمات الفوضى والعسف والاستبداد واللاديموقراطية، وهي مخلوطة من الطبقات الكمبردورية والطوائف والعائلات والقبائل. كاتب تونسي مقيم في دمشق