فجر الخامس من يناير 1961، غادرنا المُبدع الفذّ، محمود بيرم التونسي غير آسف علينا، وهو أحد أهمّ الشعراء الشعبيين العصاميين العباقرة عبر كلّ العصور. وقد عاش محمود بيرم التونسي كامل طفولته الأولى في حيّ الأنفوشي بالسيّالة بمدينة الاسكندرية، حيث كان والده يعمل موظفاً تونسياً مُعاراً في مصر. والتحق في بداية طفولته بدروس القرآن بكتّاب سيدي الشيخ جادالله الحق، ولكنّه كان بطبعه ومنذ نعومة أظافره، نفورا من التلقين ويرفض أن يعامله أحد بقسوة أو بحدّة، أو يملي عليه كيف يجلس أو كيف يتصرّف أو كيف يتحرّك، وفي حين كان الشيخ جادالله، معروفا بشدّته وقسوته وطريقته الشديدة في تلقين التلامذة، كان بيرم التونسي جهوري الصوت، لا يتكلّم إلا بصوت عالٍ جداّ، كأغلب التوانسة، وكان صريحا، لا يداهن ولا يعرف الرّقة واللّين والمُداراة والمُهادنة، وهي صفات تؤدي بصاحبها دائما إلى النفور من المفتعلين وجوقة المردّدين. فهرب منه بالطبع وانقطع بعد أشهر قليلة فقط عن الكتّاب، ممّا أضطر والده أن يُرسله إلى المعهد الديني الذي كان مقرّه مسجد سيدي المُرسي أبو العباّس. وبقى هناك حتى توفي والده، ليدير محل تجارة صغيرا لوالده، لكنه فشل بالطبع وأفلس منذ السنة الأولى، لأنه كان حادّ الطباع وشديد التأذي والحساسيّة، ولم يكن يحسن المجاراة ولا النفاق ولا المكر. وكان عشقه للأدب لعنة طاردته حتى الممات، ولكنهّا أيضا لعنة، كتبت له صكّ الخلود الأبدي في ذاكرة ووجدان الشعب العربي عامّة والمصري خاصّة. ويكفيه فخرا أنه رائد ومؤسس مدرسة الشعر العامي المكتوب في مصر وفي العالم العربي، وهو الأب الشرعي لكلّ من جاء بعده، جميعا دون استثناء. وكان محمود بيرم التونسي مبدعا بالسليقة، وهبه الله ذاكرة أشبه بالأساطير، مكّنته من حفظ واستيعاب كلّ ما يقرأه، وبألمعيّة فذّة، كان يحوّل ملاحظاته في الحياة إلى نصوص فاتنة لا تملك أمامها غير الانبهار بها والإعجاب الشديد بتخريجاتها وعمقها وبساطتها التي تغرف من زاوية شبه مستحيلة لا يمكن تقليدها أو استغلالها كعجينة ممكنة لنصوص أخرى. وهذا ما يشترك فيه كلّ عباقرة الأرض. البساطة والعمق وعدم إمكانية التطويع ولا السرقة منها. وبدأت انطلاقته الفعليّة الصاروخيّة، مباشرة بعد نشره لقصيدة (بائعة الفجل) التي سلخ فيها جلدة المجلس البلدي السميكة الرّثّة، وهاجم من خلالها بأسلوب بديع وعبارات نارية ساخرة، كلّ ممارساته وخاصة فرضه الظالم للضرائب الباهظة وأثقال كاهل الشعب البسيط الطيّب المُعدم. وفي سنة 1919، نجح بأعجوبة في إصدار مجلة أدبية ساخرة، سمّاها (المسلّة)232323232323ءتع التي سرعان ما أغلقت بالطبع، وكعادته مع أيّ مشروع، وما أكثر ما كانت مشاريع بيرم التونسي الفاشلة، لأنّ المبدع الحقيقي لا ينجح أبدا في إدارة مشروع تجاري مُربح، وهذا قدر كلّ مبدع حقيقيّ فوق الأرض منذ بداية الكون، وحتى قبضه... فأصدر مجلّة (الخازوق) الناريّة بعد ذلك مباشرة، ومن عنوانها فقط، يمكن لنا أن نعرف أنها أغلقت أيضاً بعد فترة وجيزة للغاية. وعاد إلى الإفلاس والحاجة والضيق ونقص تموين مشروبات الكيف. وبالتالي عاد أكثر حدّة وضراوة وشراسة في التعامل مع (البَنِي آدمين)، ممن يشاركونه الشارع والمقهى ويتعاملون معه ببله وكأنه مواطن عادي عليه أن يتكلّم بهمس ووشوشة ويجامل ويتملقّ مثلهم. وما كان لمثل بيرم التونسي العبقري أن يتكلّم بوشوشة النمّامين ولا أن يتملّق. واستمر على طريقته الساخرة المزعجة للسلطات، فنفي إلى بلده الأصلي تونس مباشرة بعد نشر مقالة هاجم فيها زوج الأميرة فوقية ابنة الملك فؤاد، ولكنه لم يطق العيش في تونس الغاطسة أيامها في مستنقع التخلّف والتقعّر العثماني ورقابة الاستعمار الفرنسي الخانق، فسافر إلى فرنسا ليعمل حمّالاً في ميناء مرسيليا لمدة سنتين، وبعدها استطاع أن يزوّر جواز سفر، عاد به إلى مصر، ليواصل أزجاله النارية التي ينتقد فيها السّلطة والاستعمار العثماني والإنجليزي على السواء، حتى ألقي عليه القبض مرة أخرى لتقوم السلطات بنفيه من جديد إلى فرنسا ليضطر أن يعمل هناك في شركة للصناعات الكيماوية ولكنه بالطبع يُفصل من عمله هذا أيضا بسبب تغيّبه المُتواصل فيعيش حياة من الضّنك والجوع والحاجة ويواجه أياماً قاسية ذاق فيها كلّ أصناف الجوع والتشرد والحرمان سجلها بعبقرية في أزجاله وأشعاره وحادثة حرقه لديوان أبي العتاهيّة حتى يشوي على ناره حبّة من البصل هي كلّ ما كان في مطبخه الفارغ البارد على الدوام، ورغم قسوة ظروف الحياة التي وصلت به حدّا عبثيا لا يطاق. فقد استمر في كتابة أزجاله وهو بعيد عن أرض وطنه، تونس ومصر، وكان يعبّر ببساطة ونفاذ مرعب عن حالتهما تحت نير الاستعمار الفرنسي والإنجليزي والحكم العثماني المتخلّف الكريه. وفي عام 1932م يتمّ ترحيله من فرنسا إلى تونس لأن السلطات الفرنسية قامت بطرد كلّ الأجانب الذين لا يتمتعون بعمل قار ووثائق رسميّة كاملة، فأخذ بيرم يتنقل بين لبنانوسوريا مرة هنا، ومرّة هناك، ولكن السلطات الاستعمارية الفرنسية قررت إبعاده عن سوريا لتستريح من أزجاله الساخرة واللاذعة إلى إحدى البلدان الأفريقية النائية، ولكن القدر يعيد بيرم إلى مصر عندما كان في طريق المنفى لتقف الباخرة التي تُقلّه بميناء بورسعيد فيقف بيرم باكياً حزيناً وهو يرى مدينة بورسعيد من بعيد، فيصادفه أحد الركّاب ويحكي له قصته فيعرض هذا الشخص الوطنيّ الشهم عليه النزول في مدينة بورسعيد، وبالفعل استطاع أن يهرّبه من السفينة الكريهة ليغوص بين الشعب والمقاهي في بورسعيد ويختفي لمدّة عن البوليس والمراقبة، حتى قدّم التماسا بواسطة أحد معارفه إلى الملك فاروق فعفا عنه وعيّنه مستكتبا في مؤسسة أخبار اليوم، ومنها تنقّل بين أغلب الصحف الكبرى مثل جريدة الجمهورية وجريدة المصري وغيرهما، واستمرّ الوضع على هذه الوتيرة، حتى تمّ تقديمه عن طريق بعض الأصدقاء إلى الستّ أم كلثوم، التي تخاصم معها في البداية طبعا ورفض الكتابة لها وتغيير بعض عباراته كما اقترحت عليه، لكنّه وبطبيعة العباقرة الأفذاذ، انتبه سريعا أنّ أم كلثوم مثله، في ذلك الوقت العصيب، فعاد للكتابة لها وقبل تعديل بعض عباراته، لتتحسن أموره المادية ويتوفر له ما يكفي من تبغ وشاي وأوراق وأقلام وبيرة ضرورية للكتابة في صقيع واقع بشع تحت استعمار مزدوج خانق وفقر وبؤس وحاجة واتساع روح جامحة حادّة لا يعجبها العجب العُجاب... وقد غنّت له الستّ العديد من الرّوائع الخالدة، وعندما توفي في الخامس من يناير 1961، كان بيرم قد ترك لأم كلثوم بعضاً من أشعاره، الأخرى التي اقترحها عليها ولم تغنّها، ومن هذه الأشعار كانت قصيدة (القلب يعشق كلّ جميل) التي تتناول موضوع الحبّ الإلهي، وتتغني بالسلام الدّاخلي والصّفاء الذي يتحقق بزيارة مكةالمكرمة، وتنتهي الأغنية بمشهد يتخيل فيه الشاعر نفسه (وإن لم يقل ذلك) في الجنة، ويتمنى أن يكون مصير كل أحبابه مثل مصيره. لكن أم كلثوم، ولسبب ما، وما أكثر أسباب أم كلثوم وأسرارها، لم تغنّ هذه الأغنية حين عرضها عليها، بل احتفظت بها حوالى عشر سنوات إلى أن قامت بتسليمها إلى رياض السنباطي لكي يقوم بتلحينها، وخلال تلك السنوات طرأ تغير مهم في حياة أم كلثوم تمثل في انضمام محمد عبدالوهاب إلى مجموعة ملحني أغانيها، وما أحدثه من تغيير في زيادة عدد الآلات الموسيقية الحديثة، واتجاهه إلى التعبير أكثر من التطريب في الغناء، وكان السنباطي ممن شملهم هذا التأثير مع احتفاظه بأسلوبه الخاص الذي عرف به واشتهر عنه. وقام رياض السنباطي بتلحين هذه الأغنية الفذّة اعتمادا على لحنٍ مرح خفيف يختلف عن أسلوب تلحين الأغاني الدّينية التي اعتاد تلحينها بدءاً من قصائد (نهج البردة)، و(سلوا قلبي) عام 1946، والتي كان أسلوب تلحينها شبيهاً بالابتهالات الدينية. أما قفلة الأغنية فلحنها لا يعتمد كثيراً على التكرار المعتاد العمل به في الأغاني العربية، بل يتعمد على غناء القفلة بشكل متصل إلى أن تصل أمّ كلثوم إلى ذروة الأداء التي تحوز إعجاب الجمهور، مثل الجملة التي في المقطع الأول التي تقول: واحد مفيش غيره... ملا الوجود نوره دعاني لبّيته... لحد باب بيته وأمّا تجلاّلي... بالدمع ناجيته وفي الخامس من يناير 1961 أسلم محمود بيرم التونسي الرّوح لتعود صوب النور، وليترك للحضارة العربيّة والسّاحة الإبداعية إرثا لا يقدّر بمال الدّنيا كلّها.. ولم تمنحه السلطات المصريّة الجنسية وجواز سفر إلا قبل أشهر قليلة من وفاته، ولم يستطع أن يسافر بهذا الجواز (الاعتراف) إلا لمدن الله والنور الأبدي حيث لا يحتاج المبدعون الحقيقيون إلى اعتراف ولا إلى جوازات مرور.. ولكن بيرم أحبّ مصر.. أحبّها بصدق ومصر لا تهمل من يحبّها بصدق، ولو بعد موته بقرون.. فشكرا لبيرم الوفي للأرض والممنوح من السماء، وشكرا لمصر التي ألهمته رغم الجوع والقهر وظلم الأصدقاء وشراستهم معه وغيرتهم الوحشيّة منه ومما أعطاه ومنحه الله من موهبة رغم حاجته الدائمة للمال الذي كان لا يحب الاستقرار في جيبه لكي لا يعطله عن الإبداع والحفر بمعول ورفض الفقر المدقع.. فبيرم أحبّ وعشق. ومن يحبّ ويعشق بصدق، يغفر كلّ الأذى.. ولا يذكر إلا أعذب اللحظات، حتى وإن كانت مع بيرم التونسي شحيحة وقليلة.. ياااه، كم كانت شحيحة وقليلة تلك اللحظات التي ضحك فيها بيرم من القلب وبطنه ممتلئة وقلبه دافئ.