كنت أحس بانقباض في صدري منذ الصباح.. وبلا سبب، لم أكن على ما يرام، ولا أعرف لماذا.. هكذا، يحاصرني من الجهات الأربع الشجن.. أحيانا، تنثر امرأة عابرة حفنة من الأسى، في تربة القلب، ثم تمضي لاهية، منتشية بانتصارها الوجودي.. لأنها على يقين بأنك لن تجد للبكاء سبيلا. لن تبكي، حتى حين تتذكر نظرة حبيبة قديمة، والشامة المتراقصة بين عينيها في دلال، لكن الحزن ينمو -دوماً- مثل نباتات طفيلية، كلما استمعت إلى أهازيج.. مضرجة في بداوتها، تنحدر من تلك البلاد، وتضاعف رصيدك من البكاء الخفي في الأعماق. تبكي عند سماع أغنيات، يعتبرها آخرون فرصة يتيمة لاحتساء بعض المشروبات، ودفن قهرهم بين أيدي النساء. في الصباح، فكرت في أنه لو كان بالإمكان أن تصطحب معك طائر الحسون، تكتفي بصداقته النقية، وتستغني عن كل هذا النفاق الكريه في مواقع سميت ظلما وعدوانا: مواقع التواصل الاجتماعي، لكن قانون الحيازة حوّل هذه الهواية الرائعة إلى ما يشبه التجارة في المخدرات.. هكذا، ابتعدت عن مجموعات في واتساب لهواة تربية الطيور، اكتفيت بصديق واحد، يحول إليك كل جمعة تلك البطاقات، التي قد يدحرجها أشخاص يعلنون إسلامهم يوم الجمعة فقط.. أما بقية الأسبوع، فهم في غنى عن كل شيء.. عند الزوال، تناهى إليك تغريد أحد الطائرين، ولم تعد تستطيع أن تفرق بينهما، لأن الفرخ الصغير، حفظ بعض نوتات الحسون الكبير، أثناء مرحلة غيار الريش. بعد تناول وجبة الغداء، ألقيت نظرة كالمعتاد، واكتشفت أن الفرخ الصغير، الذي لا يتوقف عن إعلان رغبته في التكاثر، على أرضية القفص، كذبيحة مستسلمة لحتفها الأخير والرحيم، وكل ريش الجناحين تطاير.. الغبي! بسبب هذه الرغبة القذرة، ولكي يعلن عنها، يبدأ في تفتيت الخيوط، وقد تمادى في لعبته، واستل خيوطا من قطعة القماش، التي أغطي بها قفصه، تفاديا لغدر الخريف، وهي من نوع «النايلون»، فالتف حول جناحه وبعض أصابعه، وحتما تخبط كثيرا.. واستسلم لنهاية غير سعيدة، وقد فعلتها، قبله تلك الأنثى الصغيرة، في قفصها المجاور له، والتي كنت تنتظر تغريدها -منذ عام ونيف- كذكر صغير «قرع»، بتعبير المولعين، وهذه أشياء سخيفة تحدث أحيانا.. عن قصد أو عن غير قصد، ولا يتسع الحيز للحديث عن ألاعيب وحيل بعض المربين، لأن الحياة برمتها محض خدعة كبرى! اكتشفت أن سبب حك منقارها على أصابعها منذ الصباح، باستمرار، قطع من ذلك الخيط، التفت حول الأصابع، ولم تعد تستطيع الوقوف، أو التمسك بالمجثم.. عادت زوجتي إلى ترديد موشحها القديم عن الهواية، الراحة والمتعة و«قلة الصحة»، كأنما لم تكتف بتخلصي من كل طيور الكناري، وبيعها بثمن بخس.. فقط، لأنني قضيت مدة طويلة، في بتر تلك الخيوط الدقيقة بمقص أظافر، والعصفورة مستسلمة، على غير عادة الطيور عند إمساكها، فقط، تنهرني لكي أتوقف بنقر أصبعي، عندما تحس بالألم.. تركتها شبه مريضة، نعم، شبه مريضة.. تلازم أرضية القفص، والحزن يبكي في قلبي، في ضراوة.. لأن مساحة ضئيلة من الجمال، في عالم متخم بالقبح، ستختفي. قد يصوم الفرخ الصغير عن التغريد أياما، حتى يشفى جناحه الجريح، ويستعيد لياقته..