أخيراً تم إطلاق اسم الشاعر والمؤرخ والمثقف والقاص والروائي، والمواطن الاستثنائي قبل وبعد أي صفة، الأستاذ إبراهيم مفتاح، على شارع في جزيرة فرسان، جزيرته التي تمثل عشقه الأسطوري، وأكسجينه الذي يمده بالحياة. ذات مرة روى لي رئيس التحرير المؤسس لمجلة الفيصل الأستاذ علوي طه الصافي -رعاه الله- أنه استقطب الأستاذ إبراهيم مفتاح للعمل في المجلة، فانتقل من جزيرته إلى الرياض، لكنه بعد فترة قصيرة ظهرت عليه أعراض نفسية شديدة الوطأة، وعند عرضه على طبيب نفسي حاذق ومدرك لخبايا النفس كانت نصيحته: أعيدوه إلى جزيرته، كيف تنتزعون سمكة من بحرها وتريدون لها العيش في الصحراء. لقد كتبت عن أستاذنا إبراهيم مفتاح أكثر من مرة؛ لأنه موضوع خصب ومحفز للكتابة عنه، كتبت بدافع الحب، والتقدير والاحترام لشخصه وتأريخه. كتبت متطلعاً لإنصافه بما يستحقه، ومؤملاً تقديره بما هو أهل له، كتبت لأني لست وحدي الذي عندما تُذكر فرسان يلمع في ذهنه تلقائياً اسم إبراهيم مفتاح. ذات مرة بلغ بي التهور أن فكرت بكتابة مقال لإقامة تمثال لإبراهيم مفتاح في مينائها أو عند مدخلها، لكني تراجعت خشية سوء التفسير، ولأن مقالاً كهذا لن ينشر بأي حال. وإلى الآن لا أرى أنني كنت مبالغاً في حجم التقدير والتكريم الذي يستحقه إبراهيم مفتاح؛ لأن المنصفين يعرفون ماذا فعل وما زال يفعل من أجل فرسان وأهلها. وهل ينسى أحد خطته التنموية لجزيرة فرسان قبل حوالى خمسين عاماً التي صاغها في قصيدة أمام الأمير نايف بن عبد العزيز -رحمه الله- عند زيارته لفرسان، وأبكت كل السامعين وكادت أن تنتزع روحه وهو يلقيها، لكنها أثمرت عن كثير مما طالب به آنذاك، وتغير حال الجزيرة النائية التي لم يكن لأهلها خيار سوى ما قاله مفتاح في قصيدته «والحل جازان أو موت على المينا». فرسان بالنسبة لإبراهيم مفتاح هي قضيته الكبرى ومشروعه الأهم، تأريخاً وأدباً وفناً وثقافةً وتنمية وشعراً وجمالاً وأساطير وحكايات وذكريات، أفنى عمره في توثيقها والاحتفاء بها والحفاظ عليها من خلال الكم الهائل الذي كتبه عنها. لقد أجهد بدنه وأنفق ما بين يديه وصرف وقته من أجل تشييد متحف اقتطعه في جزء من منزله وضيق به على أهله من أجل الحفاظ على تأريخ فرسان وذاكرتها، فعل ذلك بكل أريحية وقناعة ونفس راضية، وأصبح ذلك المكان مزاراً لكل قادم إلى فرسان، محفوفاً برحابة الاستقبال وغزير المعلومات ودهشة الذاكرة لديه. أحاول جاهداً وأنا أكتب هذا المقال أن أكون محايداً، أي أن أتحدث بمنأى عن إبراهيم مفتاح الأب والصديق الكبير والمعلم والموجه، أحاول أن أتحدث عن نموذج نادر في الوفاء للأرض والناس والتأريخ، النموذج الذي لو تكرر مثله في كل مناطقنا لأزهر التأريخ وانتشت الثقافة وتحقق معنى المثقف المسؤول عن مجتمعه. يا أستاذنا: قبل أن يكون لك شارع في فرسان، لك شوارع كثيرة في قلوبنا مرصوفة بالحب والتقدير والاحترام، ولك شارع أهم في التأريخ يليق بك.