شغلت مسألة علاقة الثقافة بالسياسة المفكرين منذ أقدم العصور، ودفع كثيرون منهم ثمناً باهظاً نتيجة مناقشة الإشكاليات بموضوعية، ولذا أيد ابن رشد دعوة أفلاطون لبناء المدينة الفاضلة، التي من شروطها أن يكون رئيس المدينة الفاضلة فيلسوفاً، وبالتالي يجب أن يتمتع ب «خصال لا بد منها...» هي: «أن يكون بالفطرة مستعداً لتحصيل العلوم النظرية - أن يكون قوي الحافظة لا ينسى - أن يكون محباً للتعلم مؤثراً له - محباً للصدق كارهاً للكذب - مُعْرضاً عن اللذات الحسّية - غير محبّ للمال؛ لأنّ المال شهوة - أن يكون كبير النفس - شجاعاً - مستعداً دائماً تُحرّكه نفسه لكل ما يراه خيّراً وجميلاً - وأن يكون فضلاً عن ذلك خطيباً فصيحاً يترجم عنه لسانه ما يمرّ بخاطره اذا تأمل». تبقى الإشكالية قائمة ومتجددة تجدد الدول على مرّ الأيام والزمان... ويبقى الفعل متبادلاً بين الثقافة والسياسة، وأفضل الحالات هي تلك الحالة التي يتصالحان فيها، فتخدم السياسة نشر الثقافة الإنسانية التي ترفع من إنسانية الإنسان وحريته وكرامته، كما تؤازر الثقافة سياسة الحكومة العادلة المهتمة بشؤون أبنائها وتنمية وجودهم وحياتهم... يدل عجز شعب من الشعوب عن إبداع الحلول الثقافية التي تسهم في صقل السلوك والارتقاء بإنسانية الإنسان، بما في ذلك إنسانية السياسي، على وجود أزمة عامة في بنية المجتمع، وأحد مظاهر تفاقم وتعمق هذه الأزمة انتشار ثقافة الجهل، والغباء، وثمة من يستهجن هذا الكلام متسائلاً: هل توجد ثقافة جهل وغباء؟ كلّ ثقافة تحارب الخير، والجمال، والحرية، والإبداع، ثقافة جهل وتجهيل مهما أُطلق عليها من تسميات براقة، ومهما أنفق في ترويجها من أموال، وسُخّر في خدمتها من إعلام، وهي ثقافة تخدم التوجه الاستبدادي. تزدهر الثقافة حينما تتم معالجة علاقتها بالدولة، معالجة موضوعية، ومن نظريات علاقة الرسمي بالثقافي: ما يدعو إلى تدخل الحكومات في شؤون الثقافة، ومنها ما يرى حرية الثقافة وعدم تدخل الحكومة في أي شأن من شؤونها. لم ترفع حكومات دول، على مرّ التاريخ، وفي كل الأحوال يدها عن الثقافة التي لم تكن في أي وقت مستقلة عن تدخل وتأثير، ومن هنا تأتي الدعوة إلى إيجاد صيغة سليمة لدعم الثقافة مع تأمين فضاء من الحرية لها كي تزدهر ويعمّ تنويرها مختلف وأوسع فئات وشرائح المجتمع. من المفيد مراجعة التجارب والمراحل التي استطاع فيها المثقفون أن يتعاملوا مع التحديات وتحييد القيود وتجاوزها كي لا تبقى عائقاً أمام نتاجهم. مثل ما حقق العلماء هامش ممارسة فعلية للعلم في مراحل معينة من تاريخ الحضارة الإسلامية، ولعب «علم الكلام» الإسلامي دوراً هاماً في معالجة التناقض الذي أشارت إليه تيارات فقهية ورجال دين. يحتاج العالم إلى حلّ مشكلة علاقة العلم والثقافة بالإيمان، في المجتمعات المتدينة وتجديد طرح الفكر الديني كي ينسجم هذا الفكر مع التطور الذي تشهده الدول المتقدمة، فضلاً عن ضرورة تنفيذ عملية تنمية حقيقية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كون البيئة المتخلفة اقتصادياً وسياسياً تخلق مناخاً ملائماً لتفسير التزمت الديني، ويزيد المشكلة تفاقماً غياب أجواء الحرية، وتفشي التسلط والاستبداد في الفكر وفي مؤسسات إدارة شؤون المجتمع، فالاستبداد يعوق تطور الثقافة، لأنّ الحرية، والحكم الديمقراطي العادل في فضاء التنمية الحقيقية يخلقان الفضاء السليم والضروري لنمو الثقافة... إنّ مهمة تصويب العلاقة بين المثقف والسياسي، جزء من المهمة الملحة المنتصبة أمام البشرية - مهمة إبداع ثقافة تسمو بإنسانية الإنسان ما يتطلب وضع خطط لتحقيقها على مستوى الدول، منها أن توكل شؤون الثقافة إلى أصحابها الحقيقيين من المفكرين المبدعين، وتهيئة بيئة اجتماعية تقدر الإبداع، وتشجعه، في فضاء من الحرية والنقد الموضوعي، مع الاستفادة من كل ما هو مبتكر، ومن التراث، والترجمة، والتفاعل الثقافي، وعدم التهيب من التفاعل مع الثقافة العالمية بحجة أنّها مستوردة، فالثقافة والعلوم العربية والإسلامية لم تزدهر بمعزل عن الثقافة العالمية، بل أفادت الترجمة العرب والعلماء المسلمين الذين لم يخافوا منها... لو أنكر العرب والمسلمون الأوائل الثقافة والعلوم والأفكار الأجنبية بحجة أنها أفكار «مستوردة» لما تجاوزوا حالة البداوة ولا عرفوا التحضر، ولا أنتجوا ثقافة وعلوماً تعترف بها أمم العالم، الاستفادة من وسائل التكنولوجيا الحديثة في عصر المعلوماتية والإنترنت، ودعم المؤسسات الثقافية ودور النشر والكتاب والمسرح والموسيقى كما تدعم المواد التموينية. وتعزيز الدور الإيجابي لوسائل ومؤسسات التربية، والثقافة، والإعلام في المحافظة على القيم الاجتماعية السليمة، والتعرف إلى مختلف المدارس الثقافية، ونشر الثقافة التي تسمو بإنسانية الإنسان، وتؤنسن الغرائز؛ ثقافة المحبّة، والخير، والسعادة... فضلاً عن الحاجة إلى امتلاك مفردات لغة التفكير السليمة: من مقولات (كليات)، ومفاهيم حضارية متطورة، وتبيان مضار التفكير الغريزي المذهبي، والطائفي، والتحزبي المنغلق ضيق الأفق، وتنمية روح المحبّة الإنسانية، والوعي السياسي الوطني والإنساني عند أبناء دولة المواطنة والقانون، ليحلّ محلّ الوعي العشائري، والطائفي الغرائزي المنغلق، ومعالجة الفجوة بين جيل الشباب وجيل الكبار، والتحرر من مزاعم التفوق الثقافي.