محمود أمين العالم في الثمانين ما زال محباً للنقاش، وقادراً على استفزاز محاوره. هذا المفكر والناقد المصري عرف المعارك الأدبية طوال حياته. هنا حوار معه: يمثل محمود أمين العالم برصانة معرفته، وعمق رؤيته، وتماسك منهجه، وحسه النقدي العميق علامة بارزة في الفكر العربي المعاصر، كما يشكل مشروعه النقدي سواء تعلق الأمر بالنقد الفلسفي أو النقد الاجتماعي أو النقد السياسي، أو النقد الأدبي متابعة موضوعية وإضافة نوعية لحقل الثقافة العربية المعاصرة، بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع معظم اجتهاداته وأفكاره. لم يمنعه انتماؤه الايديولوجي الماركسي يومًا من التواصل المعرفي والإنساني مع مختلف التوجهات والحساسيات المعرفية لأن "الثقافة لديه نظرية في السلوك قبل أن تكون نظرية في المعرفة" وهي المعادلة الثقافية الصعبة التي عادة ما يخفق في امتحانها عدد لا يستهان به من مثقفينا. كيف تتحدد لديكم اشكالية العلاقة بين الديني والسياسي؟ - لعل الإجابة عن هذه الإشكالية تفرض علينا أولاً ان نتبين في شكل تحليلي موضوعي مختصر دلالة كل طرف من هاتين الثنائيتين، وإلا سقطنا في رؤية اطلاقية جامدة تنعكس بالضرورة على فهمنا للعلاقة بينهما. هل هناك أولاً مطلق ديني ومطلق سياسي وبالتالي مطلق علاقة بينهما؟ لا أرى ذلك. حقا إن الديني يستند إلى مرجعية مطلقة، دلالياً على الأقل، والسياسى نسبي واقعياً بطبيعته ومرجعيته الدنيوية الإنسانية المصلحية، وان استند إلى مبادئ عامة. على أنني لا أرى ان التعارض بين اطلاقية المرجعية الدينية والنسبية الواقعية لمبادئ السياسي هو وحده جوهر إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي. ففي تقديري ان الديني في الممارسة العملية متعدد التوجهات. واقعاً وإمكاناً، فعلى رغم انه يرتكز على مرجعية اولى هي النص "الأصلي" باعتباره مطلق الصحة، الا ان ثمة توجهات مختلفة انطلاقاً من هذا النص "الأصلي"، فهناك التمسك به حرفياً من حيث القراءة الفكرية، وبالتالي من جهة الموقف العملي، وهناك تأويله من خلال منطوقه في إطار حرفية النص نفسه، وهنا تختلف التآويل باختلاف المكان والزمان والأحوال والمصالح. وهناك تأويله تأويًلا عقلياً خالصاً قد يتجاوز منطوقه الحرفي مراعاة لضرورات مستجدة آنية جزئية، أو تاريخية مجتمعية شاملة، وهناك أخيراً مطلق الإيمان به إيماناً روحياً خالصاً يتجسد في السلوك الاخلاقي، وفي القيام بالطقوس الشرعية من دون خوض في تآويل فكرية او عملية. وكذلك الأمر بالنسبة الى السياسي. فهو فضاء بطبيعته المرجعية النسبية، متعدد التوجهات موضعاً او زمناً، آنياً او تاريخياً، جزئياً او شاملاً. ومن تعدد هذه التوجهات واختلافها في كل من الديني والسياسي تقوم العلاقة الاشكالية بينهما، وتتفاقم او تتداخل بحسب الشروط الموضوعية السائدة، وبخاصة ان تفصيل هذه التوجهات المختلفة انما يتم بعوامل ذاتية ومصلحية وإيديولوجية. وهذا ما يجعل الديني سياسياً بامتياز في بعض تجلياتة السلطوية المختلفة في الماضي الوسيطي، بل وفي الآتي الراهن كذلك. وما اكثر الأمثلة! لعلني لا اقف عند الصورة الصارخة البشعة التي تجسدها إسرائيل، بل أشير إلى دولة الفاتيكان وحركة لاهوت التحرير، وحزب الله، وحركة الاسلام السياسي في مصر والجزائر والسودان وفي بعض البلدان غير العربية مثل إيرانوباكستان وأفغانستان الى غير ذلك. وهذا كذلك ما يجعل السياسي الخالص في الكثير من تجلياته. السلطوية يتخذ من الديني بعداً من أبعاد مشروعيته. نتبين هذا في غالبية بلدان العالم الثالث - بمستويات مختلفة - بل نتبينه كذلك في البنية الأيديولوجية لعدد من الدول الكبرى وبعض احزابها. بل يفسر المفكر الأميركي صموئيل هنتنغتون الصراع العالمي الراهن على انه صراع حضارات على اساس ديني؟! هذه باختصار شديد بعض جوانب الطبيعة الاشكالية المتعددة التوجهات والتحليلات بين الديني والسياسي. وماذا عن اشكالية العلاقة بين الديني والمدني؟ - تختلف اشكالية العلاقة بين الديني والسياسي اختلافاً شديداً عن العلاقة بين الديني والمدني، فقد يتعدد الديني ويختلف داخل النسيج الموحد للمجتمع المدني من دون ان يفضي هذا الاختلاف والتعدد الى صراع تناحري كما في بعض البلاد الرأسمالية المتقدمة كفرنسا او الولاياتالمتحدة الأميركية وبعض بلدان العالم الثالث كمصر وسورية وفلسطين ولبنان، من دون ان يعني هذا عدم وجود تناقضات طائفية بمستوى او آخر. وقد يصل الى حد الصراع التناحري كما حدث ويحدث في بعض البلدان الآسيوية كالهند مثلاً. ولعل انفصال باكستان عن الهند يكون نموذجاً صارخاً على ذلك. وفي تقديري بشكل عام ان التناقض بين الديني والديني، أي التناقض الطائفي، قد يكون اعمق من التناقض بين الديني والمدني، ويكاد التمايز الاجتماعي عموماً والطبقي خصوصاً يكون وراء التناقض الطائفي الديني - الديني الذي قد يتخذ مظهراً سياسياً في حال احتدامه. ان الديني في تقديري على تنوعه واختلافه جزء عضوي من النسيج الموحد للمجتمع المدني. ولهذا تظل - في تقديري - العلاقة الإشكالية الأساسية هي بين الديني والمدني في قضية السلطة السياسية، أي بين محاولة تديين السلطة، ومدنيتها لو صح التعبير، أي بين السلطة الدينية والسلطة المدنية، او بتعبير اكثر تحديداً بين السلطة الدينية والسلطة العلمانية - لا بمعنى معاداتها للدين كما يذهب بعض مفكري الإسلام السياسي في بلادنا العربية وانما بمعنى انها سلطة تستند الى العلم والعقل والمصلحة العامة اساساً، فضلاً عن انها لا تتخذ من الدين مرجعية أساسية ووحيدة لسياساتها وتشريعاتها وإن تكن تستلهم الدين والخبرات التراثية عموماً فضلاً عن استلهامها مصادر وخبرات إنسانية أخرى لتحقيق المصالح الآتية والمستقبلية للمجتمع وتنميتها والحرص على المشاركة الشعبية في قراراتها المصيرية وتوفير حرية التفكير والتعبير والاعتقاد والإبداع. في ضوء هذا كله أرى أن الديني على اختلافه وتنوعه هو عمق تاريخي روحي أخلاقي معرفي في المجتمع المدني وركن أساس من أركان الهوية الثقافية والخصوصية القومية أياً كان الموقف منه وهو يتطور كرؤية وكقيم وكممارسة بمدى التقدم الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي والعلمي والثقافي عموماً على اساس من العدل والحرية والعقلانية واحترام انسانية الانسان. ولهذا ليس هناك ما هو أخطر على الدين بل على المجتمع كله من تجميده من ناحية او قمعه وانتهاكه من ناحية ثانية او تحويله الى سلطة مركزية سياسية حاكمة من ناحية ثالثة. ولعل هذا ينقلنا أخيراً إلى العلاقة بين الديني والسياسي. فالأمر اكثر اشكالية وتعقيداً منها بين الديني والمدني لما سبق ان عرضنا له من تعدد التوجهات الدينية والسياسية. فإذا كانت للديني مرجعتيه الأساسية، وهي النص سواء كانت مرجعية حرفية، او مرجعية تقبل التأويل، او الاجتهاد المتجاوز لحرفية النص، فإن المرجعية الأساسية للسياسي، كما ينبغي ان تكون، هي المجتمع المدني بكل تشكيلاته المدنية الموحدة في تنوعها الاجتماعي والعقائدي المعبر عن المصالح الأساسية العامة للمجتمع الآتية منها، والمستقبلية الوطنية منها، والقومية في إطار متطلبات العصر من دون تبعيته له او عزله عنه. ولهذا قد تتساوى في رأيي خطورة الديني الذي يحتكر السلطة السياسية لمصلحة مرجعية دينية، مع خطورة السياسي الذي يحتكر السلطة السياسية كذلك لمصلحة توجه سياسي واجتماعي واقتصادي استغلالي متخلف تابع. فى خضم الجدل الدائر حول التراث، ما بين قراءة تراثية للتراث وقراءة ايديولوجية غير علمية ومغرضة للتراث، وقراءة تدعو الى القطيعة مع التراث، يترسخ ما سماه بعض الباحثين "مذبحة التراث" حين يغيب التناول الموضوعي العلمي والحضاري للتراث أو يكاد. ما موقفكم من التراث؟ - أكاد ألخص موقفي من التراث بكلمة وافية كافية للأستاذ الفاضل أمين الخولي يقول فيها ما معناه: "فلنقتل التراث معرفة" وهي ليست دعوة فرويدية لقتل الأب، أي القطيعة المطلقة مع الماضي التراثي، وإنما هي في تقديري دعوة الى ضرورة تمثل الماضي تمثلاً معرفياً في كل تجلياته، أي استيعابه استيعاباً كلياً وليس بمنهج الانتقاء كما كان يذهب الدكتور زكي نجيب محمود، أي نأخذ منه ما ينفعنا في حاضرنا ونترك الباقي الذي لا نفع فيه! على ان القتل المعرفي او التمثل والاستيعاب الجدلي لا يعني في تقديري مجرد المعرفة وانما المعرفة النقدية في إطار الشروط التاريخية الخاصة الذاتية لكل جانب من هذا التراث، وكل مرحلة من مراحله. إن تسلحنا بهذه المعرفة النقدية التاريخية مستعينين بل متسلحين بأدواتنا المنهجية والمعرفية الحديثة سوف يضاعف من حسن رؤيتنا لهذا التراث واستيعابنا لهذا التراث استيعاباً يتيح لنا تجاوزه، أي الاضافة إلىه بما يتفق مع الأوضاع والمنجزات والمتطلبات الجديدة في عصرنا، وبما يتيح لنا في الوقت نفسه تطوير أو تنمية ذاتيتنا المعرفية والفكرية والثقافية عامة وبما يعمق هويتنا القومية ويغذيها بالقدرة على التواصل والتفتح النقدي كذلك على مختلف الثقافات الإنسانية الأخرى القديمة والجديدة في مختلف مجالات المعارف والخبرات والمنجزات العملية والعلمية والاجتماعية والحضارية عامة. في تقديري ان القطيعة مع التراث سواء بسواء كالانغلاق عليه انتحار حضاري، يكاد يتساوى كذلك مع القطيعة مع منجزات عصرنا الراهن في مختلف تجلياتها او الاندماج في العصر اندماجاً سلبياً تلقينياً تابعاً. ما هي في نظركم أهم عناصر الاعاقة لمشروع الحداثة السياسية العربية المعاصرة؟ - هناك عوامل عدة وراء هذه الاعاقة وهي عوامل داخلية من دون اغفال او إنكار للعوامل الخارجية. هذه العوامل أولاً هي التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لبنية البلاد العربية وبمستويات مختلفة، وهي ثانياً التبعية للنظام الرأسمالي العالمي وعدم تحقق أي مشروع تنموي ذاتي حقيقي شامل سواء على مستوى أي بلد عربي او بين البلاد العربية، وهي ثالثا الطابع التسلطي بمستويات مختلفة للسلطات العربية جميعاً. وهي جميعاً سلطات قامت من اعلى، أكانت مدنية او عسكرية، وما يعنيه ذلك من انعدام المشاركة الجماهيرية الديموقراطية في اقتراح او صوغ القرارات المصيرية او في نقدها او تعديلها. رابعاً، الاختلاف بين معظم البلاد العربية في الأوضاع الطبيعية والأبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفشل او العجز عن تحقيق الحد الادنى من العمل العربي المشترك، ولا أقول الوحدة العربية، خصوصاً على المستوى التجاري او مستوى التخطيط الاقتصادي الانتاجي والتصنيعي والعسكري فضلاً عن المستوى السياسي الذي لا تمثل جامعة الدول العربية الا مظهراً هشاً شبه رمزي لوحدة العمل العربي المفتقدة، اللهم إلا في البيانات والتصريحات والاجتماعات والمؤتمرات الفاقدة الفاعلية فكراً ووسيلة. هذه هي العوامل الرئيسة البارزة - في تقديري - التي تكرس الإعاقة المتصلة والمتفاقمة لمشروع الحداثه السياسية العربية، التي تربط بالضرورة ارتباطاً عضوياً بالحداثه الفكرية والثقافية، فضلاً عن التحديث الاقتصادي والاجتماعي. وفي تقديري ان الطابع الراهن للسلطة العربية القائمة في شكل عام هو نقطة الضعف الجوهرية في الوضع السياسي العربي الراهن. فعلى رغم الوجود الاستفزازي العدواني التوسعي المتصل لإسرائيل على ارض عربية تمّ تشريد أهلها وامتهانهم، وعلى رغم القرارات الدولية التي تدين هذا الوجود، فإن السلطات العربية تعجز، وهي القادرة ثروة وسلاحاً وسكاناً، عن وضع خطة مشتركة موحدة للمواجهة المشروعة دولياً وتاريخياً لهذا الوجود الإسرائيلي. ولعل الأمل والدعوة أن يكون في القاعدة الجماهيرية للأمة العربية وقواها المنتجة والمبدعه والمدنية عموماً ليست دعوة الى إزاحة السلطات العربية بمقدار ما هي دعوة الى تنمية القاعدة المجتمعية الشعبية في مواجهتها ومن دون المصادرة على دور الأحزاب السياسية العربية المختلفة وخصوصاً القومية والديمقراطية والاشتراكية والشيوعية في القيام بدور التوعية والفعل التغييري، فضلاً عن دور مؤسسات المجتمع المدني، فإنني أرى في الإطار الخاص لأوضاعنا العربية ولعصرنا الراهن وللدور الإنتاجي والثوري للثقافة في هذا العصر ان يكون للمثقفين خصوصاً دور متميز خاص في بلادنا العربية الى جانب تلك التنظيمات السياسية والاجتماعية وفي تفاعل معها. ولهذا اقترحت وأقترح دائماً التنادي إلى تشكيل برلمان او جبهة للمثقفين العرب بمختلف انتماءاتهم السياسية والفكرية والاجتماعية وكفاياتهم على نحو ديموقراطي، للمساهمة في صوغ عقد جماعي قومي جديد يكون مرجعيتنا في المرحلة الراهنة. كما اقترحت وأقترح ان يفوض هذا البرلمان أو هذه الجهة بوضع مشروع تنموي إنتاجي عقلاني علمي ديموقراطي شامل لأمتنا العربية يراعي ما بين مجتمعاتنا من تباين الظروف وتفاوت المستويات، أي وضع مشروع قومي عملي يقدم بدائل وحلولاً للقضايا القومية المختلفة لا مجرد شعارات تعبوية، تمتد من القضية الفلسطينية الى مسألة المياه ومختلف القضايا السياسية والاجتماعية المعلقة على أن تشارك مختلف القوى المنتجة في المجتمعات العربية في مناقشته وإنمائه والسعي من أجل تحقيقه بمختلف الوسائل المتاحة - كما اقترحت وأقترح - السعي الى تشكيل جامعة للشعوب العربية في موازاةٍ مع جامعة الدول العربية وليس في مواجهتها بل تكون بعداً ديموقراطياً لها. لتعبر عن الصوت الشعبي العربي في معالجة القضايا العربية والعالمية وتكون عمقاً شعبياً لجامعة الدول العربية التي تهيمن عليها السلطات الرسمية. خلاصة الأمر أن لا سبيل إلى تجاوز حال الاعاقة التي يعانيها مشروع الحداثة السياسية العربية بغير الفاعلية الثقافية الواعية المستندة الى الحركة النشطة للقوى الإنتاجية والإبداعية المدنية ووحدتها في مستوى كل بلد عربي وعلى مستوى البلاد العربية عموماً.