بلا شك أن المبادرة التي أطلقها سمو وزير الثقافة بإنشاء متحف للموسيقار الكبير طارق عبد الحكيم في مدينة جدة، ثمينة ومقدرة ويشكر لسمو الوزير تبنيها وإطلاقها، فنحن نعيش اليوم عصر بناء تاريخ ثقافي يغطي مساحات كانت لتندثر من تراثنا وثقافتنا المحلية، لكني تمنيت أن يدشن مثل هذا المتحف في مدينة «الموسيقار» الطائف، حيث ولد وترعرع وتعلم وتشرب الموسيقى التي كانت رائجة في بساتينها ومجالسها ومقاهيها وحفلاتها السنوية. إن تنويع المبادرات وتوزيعها حسب الميزات التنافسية للمدن السعودية يثريها ويعطي لكل مدينة لونها ونكهتها اللذين تستمدهما من تراثها الحقيقي، ومن الجميل أن نرى هذا التنوع. أقدار طارق (الفنية والإنسانية) بدأت من مدينته العتيقة الطائف، وموهبته الفذة التي طافت العالم العربي خرجت من تفاصيل مدينته النادرة والباذخة حيث «ريم وادي ثقيف» وبساتين المثناة وقروى وتفاصيل وادي وج، وحفلات السمر على ضفاف «غدير البنات»، وأخذت موسيقاه ملامحها من رقصات المجرور وأهازيجها، ولونه الغنائي النادر من جبال الهدا وصلابة صخور الردف والشفا، ومن ألحان عوده العتيق غنى كبار الفنانين والفنانات منهم محمد عبده، وطلال مداح، وهيام يونس، ونجاح سلام، وفائزة أحمد، ومحمد قنديل، وكارم محمود، وسميرة توفيق، ووديع الصافي. استلهم طارق عبد الحكيم تراثه ومعرفته الموسيقية من مجالس السمر التي كان يحضرها في بساتين الطائف وفيها دندن عوده وتعلم كيف يحرك الأوتار، ومنها لحن وغنى أجمل تراثه الموسيقي، وفي جنباتها أسس أول فرقة للموسيقى العسكرية في الجيش السعودي، وعندما يذكر الفن في تلك البدايات لا بد أن يبدأ من بين يدي طارق عبد الحكيم ومن خلال أوتاره، فهو رئيس المجمع الموسيقي العربي، وصاحب الإسهامات الرائدة في تأسيس الفرق الموسيقية السعودية، وأول مبتعث سعودي لمعهد موسيقي في الخمسينات من القرن الماضي. طارق عبد الحكيم المولود في المثناة بالطائف عام 1920، لم تمنعه بداياته كبائع للفواكه والخضار في باب الريع في الطائف كما معظم أهالي مدينته أن يتحول إلى المؤسس الفعلي للفن في السعودية ومدرسة فريدة للموسيقى في بلاده، درس الابتدائية في المدرسة السعودية بالطائف، ليلتحق بعدها بالجيش السعودي، وبدعم من وزير الدفاع السعودي حينها الأمير منصور بن عبد العزيز -رحمهما الله- ابتعث إلى مصر للدراسة بمعهد الموسيقى العربية حيث صُقلت موهبته، ليعود ويؤسس العديد من المعاهد والجمعيات والفرق الموسيقية، أهمها مدرسة الجيش السعودي الموسيقية التي كانت أول فرقة محترفة، كما أسس متحف الموسيقى العسكري في الرياض ومتحف موسيقى الأمن العام، والجمعية العربية للفنون. ولذلك علاقة طارق عبد الحكيم بمدينته الطائف التي أحبها وهام بها ليست علاقة نشأة عابرة، بل علاقة موسيقية في كل تفاصيلها، فقد كانت الطائف ببساتينها العامرة وحفلاتها الحكومية والشعبية في كل صيف ملتقى للفنانين والغناء وبنت تراثها وأدبياتها الموسيقية التي تعلم منها طارق وألهمها للأجيال من بعده. طارق عبد الحكيم ليس الجبل الموسيقي الوحيد في الطائف فبجواره يقف العملاق الآخر عبد الله محمد، وهو رائد آخر من رواد الموسيقى في الطائف والمملكة، ومن تحت أيديهم نبتت موهبة ابتسام لطفي وسارة قزاز وطلال مداح ومحمد عبده وغيرهم الكثير، كان صيف الطائف وحفلاته الموسيقية أشبه بمهرجان جرش أو أصيلة أو القاهرة. واستكمالا لمبادرة أمير الثقافة، أقترح عليه إنشاء متحف للتراث والموسيقى والرقصات والألعاب الشعبية السعودية في مدينة الطائف تجمع تراثنا الفني وتحفظه من الذوبان والفقدان. كاتب سعودي massaaed@