أطلق أول نداءاته للكون الرحيب عام1920م..ربما تحت ظلال وارفة من وارفات المثناة من روابي الطائف المأنوس،وبعد أن أنهى دراسته الأولية التحق بالكلية الحربية،ليتخرج منها ضابطا لمدفعية الدبابة العسكريةثم يختاره الأمير منصور بن عبد العزيز وزير الدفاع في عهد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود لتكوين أول فرقة موسيقية للجيش السعودي،ويتم من أجل ذلك ابتعاثه لمصر للدراسة في معهد موسيقى الجيش المصري والمعهد العالي للموسيقى العربية. وبعد أن عاد من مهمته الوطنية الثقافية تلك قام بتأسيس أول معهد لموسيقى الجيش في العاصمة الرياض،اضطلع بتخريج12فرقة موسيقية محترفة في العزف بحسب صوتيات النوت الموسيقية،توزعت مهامها بعد ذلك بين الحرس الملكي والوطني والجيش.كان أول من قدم عرضا عسكريا للسلام الملكي السعودي امام الملك المؤسس.ولاشك ان أغنيته(ياريم وادي ثقيف)كانت أول أغنية سعودية تذاع من إذاعة صوت العرب المتوهجة آنذاك بناء على طلب مديرها أحمد سعيد،ليكون هذا النص الفني بوابته الممكنة للاطلاع على التجارب الموسيقية العالمية،حيث قام بصياغة خمس سمفونيات نفذها له في القاهرة الموسيقار الكبير توفيق الباشا. كان رمزا للفرح والبهجة في المدينة التي كانت يومًا حضنًا من الماء تصدح على جنباتها أنغام المجرور والحدري والمزمار.تلك الأنغام الشعبية المنبجسة من هسيس الأرض وعبق الوطن كان صاحبنا أجمل من يقفز على إيقاعاتها،فليس ثمة فضاء لمطارحة الفنون بين القريتين..مكةوالطائف،إلا وهو مطلق غواياتها وصائغ ترانيمها الأولى،فعندما كان يحضر»الريس»-وبهذا كان يسمونه الذين يعرفونه-فإن ذلك يعني ليلة صاخبة بالصهبة مفعمة بالمواويل منتشية بإيقاع الأرواح التي تعبر عنها الأجساد المنهكة عبر(مجرورها)و(حدريها). ومن قبل فإن الناس في مدينته الطائف آنذاك تعودوا قبل أن يغمرهم ليل»الريس»بأشجانه الروحية أن يروه متقدما طابورًا من العسكريين الذين تصدح من آلاتهم نغمات النشيد الوطني من حي(شبرا)العتيق إلى مقر القيادة العسكرية في وسط المدينة، وعندما يهدأ ضجيج الكائنات يسمع هناك من بعيد،من بساتين الورد والرمان صدى تراجيع البلابل وهي تنشد مع فنانها:»قلت يكفي البعد ياآسيني/على لسان كل البشر/ولإمتى ساقمني وانت على سمع الوتر/وأمر من عند بابكم/وأنا أسمع صوت عودكم» فيتيقن المصغون أن في الكون أطيافًا من جمال بشري يعبق بها المكان الزاخر بإيقاع الألق المبين.وبالتالي فهو أول من حن إلى المروتين،وأول من حب في روابي شهار،وأول من جعل الجفون تنعس بالعشق والحنين. وبعد مايقارب الخمسة عقود من الزمان شهدت له بريادة الفن الغنائي السعودي،يكبر به العمر فيقرر أن يتماهى مع تلك الريادة إلى آخر مدى،ليضع أول متحف فني عرفته البلاد جمع بين أروقته أبرز مشاهد رحلة الغناء المحلي والفلكلور الشعبي لكل مناطق المملكة،وتجاربه الشخصية في التعاطي مع تلك المشاهد الفنية الثقافية. وبعد..فإن كل ذلك..كل ذلك التاريخ..كل تلك العطاءات..كل تلك الوطنيات..كل تلك الوجدانيات..كل ذلك التراث الهائل لأصوات النخيل والجبال..كل ذلك لم يشفع لطارق عبدالحكيم أن تسمح له(أمانة)المدينة التي أقام عليها العميد متحفه أن ينفذ مشروعه التاريخي عليها براحة واطمئنان(مهددينه)في كل مرة بإغلاق متحفه الأثير إلى أن جاؤوا ذات لحظة عابثة ليحملوا(عداد)كهرباء المتحف بالكامل ويرحلوا.وأيا كانت الأسباب من ازدحام السيارات حول المتحف،أو المقهى القابع في أحد جنبات المكان،فهي أسباب واهية أمام قامة الفكر الفني الحضاري،وإذا كانت المؤسسة العليا للآثار والمتاحف ارتأت ضرورة تدخلها لصياغة المتحف صياغة مؤسساتية منظمة،فليتها(بحمولها تقوم)فالبلاد مفعمة بالآثار التاريخية الجليلة الملقاة هدرا في البياض الممتد،فضلا عن أن تتفضل بجهودها على فن طارق عبدالحكيم. ويمتد ذلك التعاطي السلبي مع حالات الجمال الممكنة على هذه الأرض إلى وزارة بحجم وزارة الثقافة التي ظلت بمنأى عن ذلك العطاء المجلل بتراث مساحة هائلة كمساحة بلادنا،حتى في أزمة المتحف المختلقة تلك،وبالتأكيد فليس لدينا نقابة خالصة للفنانين ترعى مصالحهم وتدافع عن حقوقهم. لم يكن وقتها لطارق عبدالحكيم من سبيل سوى أن يجرب-حتى وهو في التسعين من عمره-فضاءات أخرى تليق بتاريخه وفنه وتجاربه-وتلك الروح المجربة هي التي أدهشت محاوره أحمد زين في قناة العربية الذي وجد أمامه شيخا في التسعين مترعا بالحياة والحب والبهجة والعطاء-ليتجه إلى القاهرة التي احتضنته تلميذا واستقبلته أخيرا لعل للفرح بقية وللحلم متسعًا. وفي الحقيقة فلا جديد في الموضوع برمته،فقد سبقه شاعرنا الكبير حمزة شحاته،وإلى القاهرة نفسها وفي سن مبكرة من حياته.هذا هو قدرنا مع رموزنا عامة المترعين بالجمال والحب والفن. ألم يصل صوتنا الخالد الذي لايتكرر،طلال مداح إلى مقر حفلته الأخيرة في مدينة أبها وهو في أشد حالات تعبه من سعيه المؤرق للحصول على حقه المستحق لأسبوعين متتاليين بين جدهوالرياض وأبها وهو في أشد حالات عوزه،وبعد أن وجد غيضًا ماديًا من فيض قيمه المادية والمعنوية صعد إلى المسرح لينشد نشيجه الأخير ثم يسقط صاعدا على ضمائر ميتة بقلوب محبيه المخلصين.وبعد طلال هل لكم ان تتساءلوا الآن-فقط-عن الذي حدث لأعظم شعراء الجزيرة في الزمن الأخير.. محمد الثبيتي،وفي نفس النسق الذي ينتمي له العميد المهاجر طارق،أين ثواب عبيد ومحمد شفيق من الذين يقاسون المرض والجحود معا؟. وأخيرا فهل لي أن أوجه نسخة مع التحية لوزارة الثقافة أم للمؤسسة العليا للسياحةوالآثار أم يسبق الجميع-كالعادة-مليكنا المحبوب فتستقر الأمور من جديد وتعود الأطيار المهاجرة إلى مواطنها الأولى،ليبدأ إيقاع جديد من المجرور في روابي شهار والمثناة صاخب كصخب البدايات الأبدية!