ينتصب تمثال الدون كيشوت ورفيقه سانشو في ساحة إسبانيا في مدريد، كل المحال التجارية الخاصة ببيع التحف التذكارية للسياح زاخرة بهذا التمثال الذي يحكي قصة من أجمل قصص الصداقة والوفاء، وكل من قرأ رواية «الدون كيشوت» يعرف بأنه الفارس الذي يعيش على الأوهام، وأن سانشو هو رفيقه المخلص، يقول سانشو «طفل صغير قد يقنعه بأن الليل يحل في عز الظهيرة، وبسبب هذه البساطة أحبه مثل حياتي الخاصة، ولا يمكن لكل تهوراته وطيشه أن يفرقوني عنه». في إحدى مدن فرنسا، عرف ميشيل دو مونتين رائد كتابة المقالة الحديثة بصداقة مميزة جمعت بينه وبين إيتين دو لابويسيه، كان الأخير مرآة روحه وانعكاس صورته، قضى الصديقان أربع سنوات ذهبية في حالة من انصهار الأرواح وتناغم الأفكار، حتى أصيب لابويسيه بمرض مميت قضى على إثره، مما أصاب مونتين بالاكتئاب، فصديقه الذي يشاركه أفكاره وتأملاته ويحسن فهمه لم يعد على قيد الحياة، ما جعل ميشيل يلجأ لمشاركة أفكاره مع العالم عبر الكتابة، لقد ظل هذا الفيلسوف وفياً لذكرى صديقه الراحل لسنوات طويلة، يقول مونتين «لو قارنت بقية حياتي مع تلك السنوات الأربع التي كنت فيها محظوظاً بالرفقة والصداقة الجميلة لرجل مثله، لم تكن حياتي سوى دخان ورماد وليل مظلم وكئيب». لم يكن ميشيل دو مونتين يؤمن بمبدأ التعويض، فخسارة الصديق عنده لا تعوض بثمن، ربما لو عاش مونتين في هذا العصر، سيصدم من فكرة أن الكثيرين يبدلون أصدقاءهم كما يبدلون ملابسهم، أن قيماً كالصداقة والوفاء أصبحت تقريباً من تراث الماضي ونوستالجيا لذكرى لن تعود، ربما لو كتب ثيربانتس روايته في هذا الزمن، سيتغير مجرى الأحداث، سيتخلص سانشو من صديقه الذي يعاني من التشيزوفرينيا، وسيقتلع هذه النبتة السامة من جذورها، لا الحب ولا الوفاء سيتصدران المشهد وإنما الأنانية وترجيح المصلحة الشخصية، أبرز دعاوى المبشرين الجدد رسل السلام وعلماء الطاقة الإيجابية. قضت الرسامة المكسيكية فريدا كاهلو عاماً كاملاً ممددة على ظهرها إثر حادث شنيع، لجأت فيه إلى مراسلة أصدقائها بحثاً عن السلوى، وكسراً لحدة العزلة التي كانت تشعر بها «على الأصدقاء أن يحبوا بعضهم بعضاً حباً جماً» تقول فريدا، وانطلاقاً من هذه العاطفة كتبت إلى صديقها ليو: «من بين أصدقائي، أنت من أحبه أكثر من أي صديق آخر، ولهذا أتجرأ على إزعاجك بمشاكلي الغبية»، وعلى الرغم من أن فريدا كانت تشكو في رسائلها من معاناتها من المرض والوحدة، لم يجد «ليو» في ذلك ذريعة لتجاهل صديقته، ولم يتخل عن مراسلتها وقراءة رسائلها لأنها تصيبه بالهم والغم، وتمده «بالطاقة السلبية» أسباب تبدو مقنعة ووجيهة لكثير من الناس الذين يتخلون عن أصدقائهم في أوقات المحن ! يقال «البعيد عن العين.. بعيد عن القلب» مقولة تكرس فكرة الجفاء، وتعمل على تجفيف الذاكرة من منابع الحب والوفاء، قضى الأديب عبدالرحمن منيف والرسام مروان قصاب باشي أربعة عشر عاماً يتبادلان فيها الرسائل؛ حيث يسقط حاجز المسافة من دمشق إلى برلين، نشرت في كتاب تحت عنوان «أدب الصداقة» وهي مراسلات تضم نقاشات فكرية وتأملات ذاتية وأحاديث عن الفن والحياة، في إحدى الرسائل المنشورة كتب مروان لصديقه «سألني شخص لا يخلو من بساطة وبلادة، فيما إذا كانت صداقتنا مستمرة، فقلت له: سوف تزداد بعد الموت وفي لقائنا في برزخ النور وفسحات الضوء الكونية». قد تبدو فكرة الحفاظ على الصداقة في ظل متغيرات الحياة الحديثة مهمة شاقة، ولكن ماذا عن هؤلاء الذين يجدون في أنفسهم القدرة على استبقائها إلى ما بعد الموت، الأمر لا يخلو من لياقة عاطفية، وقيم روحية وإيمان راسخ يقول الأمريكي أوليفر هولمز «الصداقة جبل لا يتسلقه إلا الأوفياء» !