بين شغب الطفل المدجج بالأسئلة، وفضاء الفكر الباحث عن الإجابات الحائرة، قضى الدكتور تركي الحمد سنوات طويلة من عمره تتقاذفه الأفكار والتيارات، إذ قادته مغامراته الفكرية للسجن ثلاث مرات، ليخرج منه بعقلية جديدة خلعت رداء الأيديولوجيا ولبست ثوب العقل، بل إن تلك السنوات أحالت الحمد إلى طائر تخلص من كل الأقفاص الفكرية ليبقى حراً طليقاً باحثاً عن الحقيقة. «عكاظ» التقت الحمد في حوار مطول ومضت معه في رحلة مثيرة تحمل على متنها دهاليز مختلفة من كيانه وفكره، لتعبر من خلال رؤاه إلى خريطة العالم السياسية، راصدة آراءه حول القضية الفلسطينية وقطر وأعوانها، فضلاً عن حركة الإصلاح التي شهدتها المملكة ووصفها بمرحلة «عودة الروح». «أبو طارق» الذي لا يعترف بالخطوط الحمراء ويرى أن كل شيء قابل للنقاش، انتقد التعليم في المملكة وقال إنه لن يستقيم بمعلم عشعشت في عقله القيم البالية. وإلى نص الحوار: • تركي الحمد..هل سعى لهذه الشهرة أم هي التي لصقت به؟ •• شهرة؟ لا أظن أني بتلك الشهرة التي تتحدثين عنها، ولم أفكر بحكاية الشهرة هذه مطلقاً، ولم أسع إليها في يوم من الأيام. كنت دائماً أكتب وأقول ما أؤمن به، حتى لو لم يرض البعض، فلست كاتب مناسبات، أو متقلب المواقف حسب المزاج العام، فقد انتقدت الصحوة مثلاً وهي في أوج قوتها، وانتقدت قرارات كثيرة من باب الحرص على الصالح العام وسلامة الكيان الوطني. لا أريد الاستعراض هنا، فالهدف من كل حياتي ليس الاستعراض أو السعي نحو الشهرة، بقدر ما كان جعل هدف لوجودي هو الأساس، والشهرة لم تكن ضمن أهدافي في يوم من الأيام. وعلى فكرة، إن كانت الشهرة قائمة على أساس هش أو واهن، فإنها زائلة لا محالة، الشهرة الحقيقية هي تلك التي تسعى إليك ولا تسعى إليها، وهذا لا يتأتى إلا إن كان هناك هدف ثابت يشغل حيز وجودك. • كل شيء كبُر وتأثر في العمر بداخلك، إلا الشعور ب (.....) ظلّ صغيراً؟ •• إلا الشعور بعدم التغير في تلافيف النفس الداخلية. كل يوم أنظر إلى المرآة فأرى أثر السنين على شكلي الخارجي: غزو البياض شعري، وتراكم التجعيدات على وجهي، ولكني مع كل ذلك لا أشعر في داخلي أني تغيرت. فما زلت ذاك الطفل الذي يلعب في حواري الدمام القديمة، وذاك المراهق العاشق لأزقة رياض السبعينات، وذاك الشاب الذي انغمس في مجاهل الحياة الأمريكية في الثمانينات، وهذا يدعونا إلى تساؤل فلسفي ربما: هل أن التغير يمس ما هو متحول في حياتنا المادية، أما الجوهر أو ثابت على الدوام؟ لا أدري، فما أنا إلا واصف لحالي أنا ولا أعلم عن الحالة الوجودية للآخرين. عمومًا، سألتِني عن الثابت أو الذي بقي صغيراً في داخلي، فلا أقول أكثر من أنه الشعور بكوني أنا هو أنا منذ وعيت على هذه الدنيا وحتى هذه اللحظة، وربما قبل لحظة الوعي ولكني لا أتذكر ربما. • هل السجن يؤطِر العقل أم يزيد من آفاقه؟ •• لا أستطيع التعميم هنا، فكل له تجربته الشخصية التي قد، بل من المؤكد، ألا يشاركه فيها شخص آخر، وحين أجيب على هذا السؤال، فإنما أتحدث عن خبرتي الذاتية. بالنسبة لي، كانت تجربة السجن زيادة في آفاق العقل. كانت العزلة أحياناً، وأخذ إجازة من زخم الحياة في الخارج، والاختلاط بنماذج كثيرة من الشخصيات، فرصة لإعادة التفكير في ما مضى، وما يمكن أن يحدث مستقبلاً. إنها نوع من رحلة ذاتية إلى الداخل، وفق تعبيرات الكاتب البريطاني كولن ويلسون، لإعادة تقييم الأشياء والأحداث، وهي رحلة صعبة حقيقة في ذات كانت جاهلة نفسها لولا هذه التجربة. خرجت من السجن بعقل أكاد أقول جديداً، سنة واحدة مع الذات كانت معادلة لسنوات طوال من الخبرة خارج ذلك المكان، أو بيت الموتى كما يسميه دوستويفسكي، وقد يكون كذلك بالنسبة للجسد، أما بالنسبة للعقل، فهو بيت التنوير، إن صح التعبير. • ما الفرق بين تركي الحمد قبل وبعد فترة السجن؟ •• فرق شاسع. دخلت السجن مراهقاً، أو لنقل شاباً مندفعاً، متمرداً مؤدلجاً، وخرجت منه ناضجاً إلى حد ما، بعد رحلة طويلة داخل الذات، رأيت فيها ما لم أره في العالم الخارجي خلال سنوات طويلة، وهي ليست طويلة حقاً، فقد كنت في الثامنة عشرة من عمري آنذاك. دخلت السجن بعد ذلك مرتين خلال مراحل عمري، ولم تكن فترة السجن خلالهما بذاك الطول، ولكن لم يكن لهما ذاك التأثير الذي كان للمرة الأولى. اليوم، وبعد مرور تلك السنين، أحمد الله على تلك الفترة، فمن خلالها أصبحت أكثر وعياً، أو لنقل إنني وضعت قدمي على الدرجة الأولى من سلم الوعي، والذي يبدأ بعدم التسليم المطلق بأي معلومة، وكل معلومة ترد إلى الذهن، أو يراد لها أن تدخل الذهن. كان فيلسوف الإغريق سقراط يقول «اعرف نفسك»، وأظنه كان يصف الخطوة الأولى على طريق الوعي الطويل، والذي هو أساس كل معرفة جديرة بأن توصف بأنها معرفة حقة. الفرق بين تركي الحمد قبل وبعد فترة السجن؟ ببساطة وإيجاز، هو كالفرق بين خام المعدن وصفاء المعدن بعد صهره على نار حامية. • بمن تأثرت فكرياً؟ •• لو سألتك سؤالاً: ما هو الطعام الذي أسهم بنموك؟ لن تستطيعي بالطبع أن تحددي نوعا معيناً من الطعام، لأن هنالك أنواعاً كثيرة أسهمت في ذلك. نفس الشيء يمكن أن يقال عن الفكر، تيارات كثيرة، ومفكرون كثيرون يسهمون في نمو الفرد الفكري، ولكن معك حق إلى حد ما، فكما أن المرء يحب أطعمة معينة، فكذلك الفرد يتأثر بمفكرين بعينهم، وتيارات بعينها. وإن كان لا بد من ذكر أسماء معينة، فأقول إن من أوائل من تأثرت بهم هو المفكر المصري سلامة موسى، وطه حسين في كتابيه «في الشعر الجاهلي»، و«مستقبل الثقافة في مصر». أما بالنسبة للغربيين، فلا أنكر تأثري في بداياتي بالماركسية وكتابها، من كارل ماركس إلى روجيه جارودي ومكسيم رودنسون، ومن لينين إلى تشي غيفارا وآخرين. وفي مرحلة لاحقة، تخلصت من أسر المفكر والتيار لأكون متأثراً بالطرح من أي كاتب أو تيار، فليس المهم من هو المفكر، ولكن المهم قيمة الطرح وتماسكه. • ما أعظم هدية قدمها لك القدر؟ •• والد محب، وأم حنون، وأطفالي، الذين يبقون أطفالي مهما تقدم بهم العمر. • ما الخطوط الحمراء التي علّمتها لأبنائك منذ بداية التربية؟ •• لا خطوط حمراء. كل شيء قابل للطرح، وكل شيء قابل للنقاش، ثم أتركهم لعقولهم وحرية اختيارهم، بعد تأسيس جيد لهذه العقول بالمعرفة والقيم السامية، التي لا تخرج عن ثلاثية الحب والخير والجمال. هذا الأمر بعد أن يشتد عودهم بطبيعة الحال، أما قبل ذلك، فإني أحاول أن أغرس فيهم هذه القيم سلوكاً وعملاً، وأجعلهم يستمتعون بمباهج المعرفة والتفكير المنطقي السليم، ثم بعد ذلك هم وشأنهم، حتى لو خالفوني في توجهاتهم. • لو كنت وزيراً للتعليم ما أول ثلاثة قرارات تتخذها؟ •• ثلاثة أركان يقوم عليها التعليم الجيد: المنهج، المعلم، والمدرسة. من ناحية المنهج، سوف أهدم قبل أن أبني. سوف أهدم كل فكر وفكرة تنافي العقل في الكتاب المدرسي. سوف أحاول تنقية عقول النشء من الخرافات والأوهام والخزعبلات والأساطير التي حشيت بها عقولهم على مر السنين على أنها حقائق وما هي بحقائق. سوف يكون التركيز في التعليم على العقلانية، والمنطق، والتفكير الحر. ليس هناك خطوط حمراء، ولا أمور لا تقبل النقاش على أنها ثوابت. الفلسفة، والموسيقى، وعلم الأخلاق، وتنمية ملكات التفكير والنقد لدى الطالب، والقراءة الحرة، سوف تكون جزءاً من كل مرحلة دراسية. لن يكون هناك توسع في تلك«العلوم» التي لا تغني ولا تسمن من جوع في الحياة العملية، مجرد النزر الكافي لحاجات الطالب الاجتماعية. وسوف يكون التركيز على الدوام على تلك القيم النبيلة التي ترتقي بإنسانية الإنسان، مثل قيم الحب، والتسامح، وجماليات الاختلاف، وتقبل الآخر المختلف، والمساواة بين البشر، ذكراً وأنثى، في الانتماء إلى الإنسانية، والنفور من هيمنة الرأي الواحد وسلطته المطلقة. أمور كثيرة يمكن مناقشتها في هذا المجال، ولكن المجال لا يتسع. كل هذه الأمور لو تعدلت منهجاً، فإنها لا تستقيم عملاً في ظل غياب معلم لا يؤمن بمثل هذه التغيرات، وغير كفء. المعلم هو الوسيط بين الطالب والفكرة، ولذلك لا يمكن قيام نظام تعليمي متطور، لمعلم ذي عقل عشعشت فيه الأوهام والقيم البالية المعيقة لكل انطلاق حر. في الآونة الأخيرة، حاولت المملكة تغيير المناهج في مثل هذا الاتجاه، أو قريباً منه، ولكن بقي ذات المعلم المعاق فكراً، فكأنك يابو زيد ما غزيت. تزامناً مع كل منهج ومنهجية، يجب إعداد كوادر من نوع جديد من المعلمين، يثقفون قبل أن يثقفوا، وخاصة في المرحلة الابتدائية، حيث تتم تنشئة العقول الغضة، العقول ذات الصفحة البيضاء، المتشربة لكل جديد. وأما بالنسبة للمدرسة، بل وكل المؤسسات التعليمية، فيجب أن تكون نموذجاً للمجتمع الجديد الذي نرومه، من خلال ممارسة وتجسيد تلك القيم النبيلة المتحدث عنها آنفاً، في العلاقة بين الطالب والمعلم، وفي العلاقة بين الطالب والطالب، وفي البيئة العامة للمدرسة، حيث يسود الهواء الطلق، بعيداً عن كل تلوث سابق. بطبيعة الحال، فإن كل ذلك، فيما إذا كان هو المراد، لن يحدث بين يوم وليلة، أو بين لحظة وضحاها، فكما أن التجهيل مارس فعله لأجيال، فكذلك هو التنوير يحتاج لأزمان، ولكن كما قيل فإن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، وقطرات المطر تملأ السدود في النهاية. • الحُب وسيلة حياة أم غاية روحيّة؟ •• أما وسيلة حياة فلا، ما أكثر الذين يعيشون بلا حب، بل على العكس، يتغذون على الحقد والكره، وانظر حولك. أما أنه غاية روحية، فأقول نعم. بلا حب، يسود الخواء في النفس البشرية، وتصبح الذات كالطبل الأجوف: قد تكون عالية الصوت، ولكنها جوفاء المحتوى. • هل الزواج مقبرة الحب أم شراكة تعتمد على الحظ؟ •• الغالب الأعم نعم، الزواج مقبرة الحب، ولكن هنالك استثناءات لا تنفي القاعدة، وفق تقديري بطبيعة الحال. فالحب يعني الشغف، الإثارة المستمرة، الشوق الدائم، الإحساس بطول لحظات الانتظار حتى لو كانت لحظة واحدة بانتظار الحبيب، أو شيء من خبره، وفي النهاية فإن الحب هو اللهفة المستعرة التي لا تهدأ حتى بوجود الحبيب. أما الزواج فقاعدته الروتين بعد أن تهدأ المشاعر، فالجسد قد أشبع حاجته، والقلب قد خف خفقانه بعد الحصول على الحبيب، والمشاعر قد خف أوارها بفعل الروتين، فالحب والروتين يقفان على طرفي نقيض. هذا ليس انتقاصاً من الزواج، الذي هو مؤسسة اجتماعية لها وظائفها وغاياتها التي ليس من الضروري أن تتوافق مع لهيب الحب، ولكنه محاولة للتفرقة بين الحب والزواج، لا مدحاً لهذا ولا قدحاً في ذاك. حين ينتهي حب معين بالزواج، فذاك يعني تغلب الاجتماعي على الوجداني في حياة الإنسان، والمؤسسي على التلقائي في حياة الفرد، إلا في حالات نادرة حين يتصالح الحب مع الزواج، فلا تخبو نار الحب، ولا تندثر غايات الزواج الاجتماعية، ومتى حصل ذلك فهو المرام، ولكن ذلك نادر ندرة المطر في الصحراء، الذي إن هطل، حوّل الصحراء إلى واحة وارفة الظلال. هذا لا يعني أن الزواج خال تماماً من الحب، ولكنه حب بلا لهفة، حب نسميه «العشرة»، وأسميه حب «الألفة»، وهو حب تنقصه تلك الشرارة التي تشعل النار. • ما الكتاب الذي لم تستطع تجاوزه حتى اليوم؟ •• هي روايات أكثر منها كتباً فكرية مباشرة: الجريمة والعقاب لدوستويفسكي، الأم لمكسيم غوركي، وثلاثية نجيب محفوظ بالإضافة إلى أولاد حارتنا. • السعودية اليوم كاملة لو يتم (.....)! •• الكمال غاية لا تدرك، وتمام الكمال، إن حدث ولن يحدث بشكل مطلق، هو بداية النقصان. فالقمر حين يصبح بدراً هو تمام الكمال، ولكنه يبدأ بالنقصان. وحتى الحضارات حين تعتقد بكمالها، تبدأ عملية انحدارها، حضارات ما بين النهرين، والفراعنة، والإغريق، والرومان، والمسلمين، هي مجرد أمثلة. جمال الحياة هو في الوعي بنقصانها، ومحاولة سد القصور، أو لنقل السعي نحو الكمال. ليس من الضروري أن نصل إلى الكمال، ولكن في المحاولة والسعي للكمال يكمن معنى الحياة. نعود إلى موضوعنا السعودية والكمال. السعودية كأي دولة في العالم، ينقصها الكثير لا شك في ذلك، وهذا ليس عيباً، بل العيب في اعتقاد الكمال عند نقطة معينة، والوعي بالنقص في محاولة لسد ثغراته. في يوم من الأيام، ظنت السعودية أنها كاملة، أو أوحي لها بذلك، فبدأت بالانحدار شيئاً فشيئاً، ولكنها في النهاية أدركت أن ذلك محض وهم، فبدأت باستدراك ما فاتها، وبدأت عجلة الإصلاح والتغيير، أو محاولة الوصول إلى الكمال. وأكرر محاولة. ومن خلال هذه المحاولة، والوعي بالنقص، سيتحقق الكثير. ليست سعودية اليوم هي الأفضل في هذا العالم، كما أنها ليست الأسوأ، ولكنها ليست قانعة بوضعها، وهذا هو الأهم، والحافز وراء محاولة الإصلاح والتغيير، وفي المحاولة يكمن سر النجاح. • ما الأثر الباقي إلى اليوم لدى الفكر السعودي نتيجة التطرّف الديني؟ •• الكثير.. نعم الكثير، ففكر التطرف بل وأي فكر آخر، لا ينتهي بمجرد قرار سياسي بشجبه ونفيه ومحاسبته، فقد تغلغل في ثنايا العقول لعقود طويلة من التعبئة والتجييش وغسل الأدمغة. نعم، القرار السياسي بالتغيير مهم جداً، بل هو المقدمة الأولى لأي تغيير، وهذا ما يثبته تاريخ البشرية، سواء تحدثنا مثلاً عن قسطنطين وقراره بجعل المسيحية هي دين الدولة الرومانية، أو صلاح الدين الأيوبي، الذي نقل مصر من التشيع إلى التسنن، أو غيرهما. • الإلحاد زاد في عهد الصحوة، أم في هذا العصر؟ ولماذا؟ •• بطبيعة الحال ليس هناك إحصائية حول هذا الموضوع، ولكن المؤكد هو أن هنالك موجة إلحاد تجتاح الشباب، صغيرة هي أم كبيرة، أمر لا أدريه. ولكني أتوقع، وقد أكون مخطئاً، أن الموجة في زمن الصحوة كانت أكبر، لماذا؟ الإلحاد بين الشباب خاصة، هو نوع من ردة فعل تجاه التزمّت وعدم التسامح، وتجارة الأوهام، وعدم المرونة في فهم نصوص الدين من قبل ثلة نصبت من نفسها حارسة وحامية لبيضة الدين، وفارضة أسلوبها وتفسيراتها للنص على أنه المعنى الأوحد للنص، نازعة من الدين إنسانيته وقيمه السامية، مثل قدسية الإنسان بوصفه إنساناً وحسب، وجماليات الأخلاق بين بني البشر، والتعارف بين الأمم والشعوب بوصفه أحد غايات الخالق من خلق الإنسان. بمعنى، أن الإلحاد كان نوعاً من الرفض الوجداني الغاضب تجاه تلك الثلة ووصايتها، وليس موقفاً فلسفياً أو فكرياً مستنداً إلى أسس معينة من المنطق. • ما هي رسالتك للسعودي الذي يضع صورة صدام حسين في معرّفه الشخصي بتويتر؟ •• أقول له: هذا الرجل طاغية مهما كان له من حسنات، إن كان له حسنات، ولا ذنب أكبر من الطغيان، ولكن يبدو أن العرب يعشقون الطغاة والطغيان، منذ أبي جعفر المنصور وحتى صدام حسين. • رغم التنافر بين التيار اليساري والجماعات الإسلامية إلا أن كثيراً من اليساريين باركوا اقتحام جهيمان الإرهابي للحرم سنة 1979، ما سر هذه الازدواجية؟ وما موقفك من الحادثة في ذلك الوقت؟ •• هذا صحيح، والسبب هو الموقف الأيديولوجي من الدولة السعودية، فكلا الطرفين رافض لها مهما فعلت، وسواء كانت على خطأ أو صواب، حتى لو صرحت بأن 1+1=2، فالموقف هو الرفض، ففي النهاية ليست القضية تحليلاً موضوعياً، أو عقلاً نقدياً، أو موقفاً من ذات الحادثة أو الواقعة، بل هو تعصب أيديولوجي لا يرى إلا بعين واحدة. بالنسبة لي؟ كنت أيامها في أمريكا، وكنت أسير أيديولوجيا معينة رافضة، ولكن الله حررني منها ومن عبوديتها. • لنذهب للملف القطري.. ما الذي كان سيحدث لو تأخر أمر المقاطعة القطرية؟ •• منذ انقلاب حمد بن خليفة على أبيه خليفة بن حمد عام 1995، كانت نوايا وأهداف النظام القطري الجديد تجاه السعودية مستشفة، ثم لم تلبث أن تبينت بشكل واضح مع كل يوم يمر. هذه الأهداف تتلخص في إسقاط الأسرة المالكة السعودية، تقسيم المملكة، وضم أجزاء منها لقطر (منطقة الأحساء، وبعض أجزاء من المنطقة الشرقية)، وتكوين قوة إقليمية في المنطقة. ولا أظن الحاكم القطري بذاك الذكاء السياسي والإستراتيجي الذي يمكنه من التفكير بذاك المستوى، ولكنها قوى دولية، ولا أقول مجرد إقليمية، هي من يقف وراء هذا المخطط في ذاك الزمان، واستخدمت فيه قطر كمطية ضالة، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وسقوط نظام صدام حسين عام 2003، وطرح مفهوم «الفوضى الخلاقة» لكونداليزا رايس عام 2008، حيث كان واضحاً أن هنالك مخططاً أمريكياً لإعادة رسم خريطة المنطقة. ظن حاكم قطر أن الظروف كانت مناسبة لتحقيق أطماعه بدعم أمريكي آنذاك، في ظل إدارتي بوش الابن وباراك أوباما، فانخرط فيه بشكل كامل. وحقيقة، لو كان لدى حاكم قطر، وقرينه حمد بن جاسم، ذرة من تفكير سياسي سليم، لأدركا أن أهدافهما تجاه المملكة مستحيلة التنفيذ لافتقار قطر للبنية التحتية للقوة الإقليمية، فلا عدد سكان يذكر، ولا مساحة تذكر، ولا موقع مهماً يذكر، كل ما لديهم شيء من الغاز منحهم ثروة هائلة لا أكثر. نعم، كان هنالك مخطط لتقسيم المملكة إلى دويلات طائفية ومناطقية، وقانا الله منها لأسباب لا مجال لاستعراضها هنا، ولكن قطر لم تكن مؤهلة لتنفيذ ذاك المخطط، بل كانت مجرد حجر لا قيمة له على رقعة شطرنج دولية، كل دورها هو خلق فوضى معينة، ثم يلقى بها جانباً. ولكن قطر تورطت، ثم لم تعد تستطيع التخلص من تورطها، فاستمرت حتى بعد التخلي عن المخطط، ولو مرحلياً بعد انتهاء إدارة أوباما، في مناكفة المملكة. أمر المقاطعة تأخر كثيراً، وفسر الصبر السعودي على أنه عجز عن المواجهة، فاستمرت المناورات القطرية، وجيء بتميم بن حمد في لعبة مكشوفة بعد انفضاح أمر الحمدين، واستدعي التركي والفارسي، وشذاذ الآفاق من الإخوان والمرتزقة، عملاً بمقولة أنا الغريق ما ضرني البلل، وهذا في النهاية ما سيقود إلى هلاك النظام هناك، والحديث يطول حقيقة. فماذا سيحدث لو تأخر أمر المقاطعة؟ لقد تأخر فعلاً، ولكن ما لا يدرك جله لا يترك كله، فلو تأخر الأمر أكثر، لوجدت الكثير من عملائهم وأعوانهم يعيثون فساداً في هذه الأرض بما لا تحمد عقباه. • من الذي يلعب شطرنج بالآخرين في مثلث الخُبث «تركياإيرانقطر»؟ •• لو نظرنا إلى رقعة الشطرنج، لوجدنا أن هنالك بيادق كثيرة، منها الجنود (16) بيدقاً، ومنها قوات الهجوم (الوزير، والقلعة، والفيل)، ومنها قوات المناورة (الحصان)، ولكن أهم بيدق هو الشاه أو الملك، الذي إذا مات انتهت اللعبة. إذا طبقنا قواعد هذه اللعبة على الثلاثي، تركياوإيرانوقطر، سنجد أن قطر ليست إلا جندياً من جنود الشطرنج، مثلها في ذلك مثل حكومة الوفاق في ليبيا، والموالين«للخليفة» في أنقرة في شتى البلدان. أما الإخوان المسلمون ومن تبعهم من الإسلامويين، فهم يشكلون الوزير، القوة الهجومية التي تضرب في كل اتجاه دفاعاً عن الشاه. أما القوى الهجومية الأخرى، فتتحدد وفق مسار اللعبة. أما الشاه، وعلى خلاف لعبة الشطرنج الحقيقية، فهو بين تركيا أردوغان وإيران الملالي، كل منهما يدعيه، على أمل إقصاء الآخر للتفرد بالمنصب، رغم أنهما يظهران كحليفين في الظاهر، كنوع من مناورة يعتقد كل منهما أنها ذكية ومستورة، رغم أنها مكشوفة لمدقق النظر. اللعبة تدور حقيقة بين المتنافسين على موقع الشاه، أما البقية، سواء قطر أو غيرها، فهم مجرد جنود على الرقعة، يضحى بهم بسهولة، إذا اقتضت المصلحة ذلك. ولكن كلنا يعرف أن في لعبة الشطرنج فريقين: الأبيض والأسود، فإذا كانت تركياوإيران يشكلان الفريق الأسود مثلا، فمن هو الفريق الأبيض؟ حالياً، هو السعودية لكلا الطرفين الأسودين، ولا أحد غيرها، ودعك من الشعارات الرنانة حول أمريكا وإسرائيل. • في سنوات شبابك الأولى تجاذبتك الاتجاهات السياسية بين الفكر القومي الناصري والتيار البعثي، فضلاً عن الفكر الشيوعي الماركسي، ما مدى قناعتك الآن بهذه التيارات وأين تجد نفسك بعد كل هذه السنوات؟ •• أين أجد نفسي بعد كل هذه السنوات؟ طائر تخلص من كل الأقفاص الفكرية. حر طليق باحث عن الحقيقة حتى وإن لم يجدها، تكفي متعة البحث. الأسر الأيديولوجي والفكري، وتقييد نفسك بتيار واحد، هو أسوأ أنواع العبودية فعلاً. قد آخذ بعضاً من الفلسفة الماركسية عند الاقتناع بها، وأقول الفلسفة الماركسية ولا أقول الأيديولوجيا الشيوعية، وشتان بين الاثنين، وقد أمزج ما أخذت بفلسفة هيغل، أو نيتشه، أو ظاهرية هوسرل ووجودية كيركغارد أو سارتر وعبثية كامو وبنيوية فوكو، بل وحتى صوفية ابن عربي والرومي، ولكني لا أقيد نفسي بأحد، فكل ذلك لا يشكل إلا مواد أولية تدخل إلى عقلي، فتتلاقح هناك، وأخرج منها بقناعة معينة. نعم، أنا أعتبر نفسي اليوم طائراً حراً، وروحاً حرة تطوف العالم دون قيود، أو نحلة ترتشف الرحيق حيثما وجدته. • كتبت عوالم روائية تتماس مع السيرة، متى تكتب سيرتك بضمير الأنا؟ •• حين يأذن الله بذلك، وكل شيء بوقته حلو سيدتي. • تحدثت في 2016 عن مشروع لتقسيم المنطقة وقلت إنه سيقوم على أسس طائفية. هل مازلت مقتنعاً بهذه الرؤية أم أنها اختلفت؟ •• نعم ما زلت، وهذا المشروع كان مطروحاً منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وكان ذاك الغزو مقدمة له، وبدأ العمل على تنفيذه بطرح كونداليزا رايس خطة الفوضى الخلاقة، ثم ثورات «الربيع العربي»، ولكن تغير الظروف الدولية والإقليمية أدى إلى إجهاض المخطط مرحلياً، وربما تأجيله، فلنكن على حذر دائماً بما يحاك لنا وراء الكواليس، فالسياسة لا تعرف المبادئ ولا الثبات ولا الأخلاق. • من وجهة نظرك، ما أبرز الأمراض الشائعة بين المشتغلين بالفكر في الساحة العربية؟ •• الأدلجة، ثم الأدلجة، والأدلجة. مرض النخب الثقافية العربية في كل العصور. • هناك من يتحين الفرص لمهاجمتنا، ومن اللافت الهجوم المتكرر على السعودية من كتّاب وإعلاميين فلسطينيين دون مبرر، كيف تنظر إلى ذلك؟ •• العاجز دائماً يلقي اللوم على غيره لتبرير عجزه. هذه آلية دفاعية نفسية لإخلاء الذات من مسؤوليتها. كانت كل الدول العربية، بل وكل العالم، هي المسؤولة عن بيع «القضية»، واليوم السعودية، ومن يدري غداً. على افتراض أن يكون هنالك قضية. • كورونا مؤامرة سياسيّة، أم وعكة كونيّة؟ •• سؤالك هذا يذكرني بمتاهة الأرنب. جيء بجزرة ووضعت أمام أرنب، فلم يلبث الأرنب أن اتجه إليها وازدراها. ثم جيء بمتاهة زجاجية ووضع فيها ذات الأرنب، بعد فترة بطبيعة الحال، ووضعت الجزرة أمامه بحيث يراها. حاول الأرنب أن يصل إلى الجزرة مباشرة كالمرة السابقة، ولكنه لم يستطع، فجدران المتاهة الزجاجية تمنعه، فأخذ يدور في ممرات المتاهة باحثاً عن طريق للجزرة. وبعد فترة من الدوران، أخرجوه من المتاهة، ووضعوا الجزرة أمامه مباشرة، ورغم جوعه لم يتجه إليها، بل أخذ يدور وكأنه لا زال في المتاهة. هذا هو جواب سؤالك، فقد اعتدنا على الأجوبة المعقدة، ونظريات المؤامرة، وما يجري وراء الكواليس، ونسينا بساطة الأشياء، والأجوبة المباشرة، ومن ذلك مسألة كورونا. في ظني، فإن كورونا وعكة كونية، قد يكون سببها أي شيء: وجبة خفاش، أو إهمال في مختبر ما، أو خطأ في تركيبة كيميائية مثلاً، ولكن لا سياسة ولا مؤامرة متعمدة وراء ذلك.