الكاتب والمفكر السعودي تركي الحمد غني عن التعريف. فنتاجه الروائي اضاف نبضاً جديداً للأدب الخليجي، واعتبر مفترق طرق في مسار الرواية السعودية. ومنذ سنوات يطرح اسئلة على الثقافة العربية الراهنة، باحثاً عن الكيفية التي تتيح لها التفاعل مع هذا العصر والاندماج فيه، بالصورة التي تمكنها من صناعة مستقبل افضل من الحاضر المتعثر. وذلك من خلال نسق معرفي جديد يستوعب الجديد ولا يرفض القديم من دون ان يغرق فيه او يسجن نفسه داخله. التقت "الوسط" تركي الحمد في مناسبة صدور كتابة الجديد "جروح الذاكرة". * ماذا اضافت لك تجربة الرواية، خصوصاً انها شكل من اشكال التعبير الفكري بشكل فني؟ - اضافت لي ذلك الاحساس الذي يعتري الغائص في البحر لأول مرة، حيث يرى بالعين المجردة وبالتفصيل ما لم يكن قادراً على رؤيته وهو يمخر عباب البحر في سفينة او قارب لا يتجاوز السطح في الرؤية المباشرة: ان تكتب في الفكر يعني ان تتعامل مع المجردات، وليس من الضروري ان يكون لك احتكاك بالمحسوسات التي تحاول تجريدها. الفكر التجريدي مهم جداً ولا شك، ولكن من المهم ايضاً ان يكون لك علاقة بعالم المحسوسات مباشرة، وهذا هو ما يمنحك اياه الغوص في اعماق الحياة من خلال الكتابة الروائية. بتعبير آخر الكتابة الروائية شبيهة بتجربة الصوفي المتبتل في بحثه عن الحقيقة المحسوسة، وليس حقيقة الفلاسفة المجردة، لا لذة تعادل لذة الصوفي حين يحس بأنه قد امتلك الوجود او ذاب في الوجود او اندمج مع حقيقة الوجود. هذا هو بالضبط ما يمنحك اياه العمل الروائي والانغماس فيه، ببساطة وايجاز، احسست من خلال الرواية انني انسان، بكل ما تحمله هذه الكلمة من مشاعر وآمال والام ونقص وكمال وتناقضات وتكاملات. * بداية الكتابة عندك جاءت متأخرة، ما سبب هذا التأخر؟ - جان جاك روسو بدأ الكتابة وهو في سن الاربعين، وفيلسوف التطور والتطورية هربرت سبنسر، وصل الى سن الاربعين وهو لا يعرف الكتابة والقراءة، ومع ذلك تعلمها، واصبح اشهر فلاسفة بريطانيا. ليس مهماً متى نبدأ ولكن ماذا نقدم، فقد يقدم احدهم كتاباً واحداً، او حتى بحثاً او مقالة واحدة، ويكون قد قدم الكثير، فيما يقوم آخر بتأليف العشرات او المئات، ولكنه لا يقدم شيئاً، العبرة يا صديقي بالكيف لا بالكم. مارغريت ميتشل لم تقدم في حياتها الا رواية واحدة هي "ذهب مع الريح"، ولكنها تعتبر من اشهر روائيي اميركا والعالم، فيما هناك من ينشر روايات عدة في السنة الواحدة، من دون ان يحصل على نصيب بسيط من اهمية ميتشل او الاخوات برونتي مثلاً. وقد تكون للكتابة المتأخرة فوائدها، من حيث اختصار الافكار، والاستزادة من معين الفكر والثقافة والوصول الى قناعات راسخة، بعيداً عن حمى الشباب وحماسة سنوات العمر الاولى، وعلى اية حال فقد بدأت الكتابة المنشورة وانا في سن الثالثة والثلاثين، اي انني لم اصل الى سن الحكمة المفترض، اي سن الاربعين. * في كتابك "الثقافة العربية في عصر العولمة" لا ترى مبرراً للتخوف في العولمة، بل تعتبرها فرصة للتفاعل الحضاري وتكريس قيم الحوار العالمي. فماذا عن التحديات التي تواجهها الهوية؟ - كل فكرة او رأي محكوم بنسبيته، فلا احد يملك الحقيقة المطلقة. ولكن عندما نتحدث عن اشكالات الهوية في عصر العولمة، فأنا اعتقد اننا نعيش نوعاً من الارهاب الفكري وغير الفكري في ما يتعلق بهذه المسألة. المشكلة الاساسية هي في افتراض ان الهوية او الخصوصية، او غيرها من مترادفات او مفاهيم تقود الى المعنى نفسه، هي من القضايا الثابتة. اشكاليتنا تكمن في قولبة المفاهيم وتجميدها عند نقطة معينة، لذا نصاب بخوف قاتل من فقدان تلك الهوية المفترضة. هكذا نرى مدى الفجوة المتسعة باضطراد بين ما قولبناه ذهناً، وبين ما هو معاش وممارس. العلاقة بالغرب تحديداً علاقة تاريخية متغيرة وليست علاقة ثابتة. فالاسلام ليس ملكاً لنا حتى نضعه في علاقة مع الغرب او غيره، بل هو لنا ولهم وللبشرية جمعاء، وليس من المفروض ان نضعه في علاقة مع الغرب او غيره، بل هو لنا ولهم وللبشرية جمعاء، وليس من المفروض ان نضعه في علاقة مع اي طرف. العرب لديهم عقدة تاريخية تجاه الغرب، فالمخيال الجماعي العربي تحركه تجارب تاريخية معينة مع الغرب، مثل الحروب الصليبية قديماً والاستعمار حديثاً. وهذه الذهنية ما زالت مؤثرة حتى اليوم على رغم تغير واقع الحال. وهناك من التيارات والاتجاهات القومية والاسلامية واليسارية، اذ يتفق الجميع بنيوياً في هذه النقطة، ما يرسخ استمرار هذا المخيال وتجذره في الذهن العربي والمسلم لأغراض سياسية في المقام الاول. ليست هناك للأسف محاولات تنوير كافية، تسلط الضوء على المتغير في العلاقة التاريخية مع الآخر، وهو الغرب في هذه الحالة. اما بالنسبة للغرب، فتوجسه الحالي من المسلمين، والعرب بصفة خاصة، راجع الى عدم تقبلهم حقيقة انهم جزء من هذا العالم. والتوجس هنا راجع الى اسباب حضارية، بقدر ما هو راجع الى اسباب سياسية بحتة. قد تزعجنا هذه الحقيقة، وقد يبغضني القارئ هنا، ولكن، وكما يقول المثل: "بكيني ولا تضحك الناس علي". * الصورة النمطية للعربي في الذهنية الغربية... ما سببها؟ - قبل ان نطالب الغرب بأن يكون موضوعياً معنا، علينا ان نفرض على الآخر حضورنا... هكذا هي الحياة. وهكذا تجري الامور، فما نيل المطالب بالتمني. هذا ما فعله الالمان واليابانيون والفيتناميون وأهل الصين. هؤلاء لم يبشروا اميركا بالويل والثبور، مستخدمين سلاح الظاهرة الصوتية، بقدر ما فرضوا انفسهم فرضاً، واجبروا الآخر على ان يكون موضوعياً حتى حين لم يكن يريد ذلك، ليس المهم ماذا يفعلون هم. بل المهم هو ماذا نفعل نحن. * يقول أركون انه كان من المفترض ان يكون مشروع الجابري هو "نقد العقل الاسلامي"، بدلاً من "نقد العقل العربي"، هل تؤيد هذا الرأي؟ - كلا. فالنص الديني الصرف، او اي نص مجرد، يمتزج بالبيئة التي يعمل فيها، ويخضع لآليات العقل في تلك البيئة، وينتج لنا في النهاية نصوصاً قائمة على النص الاصلي من ناحية، وآليات العقل الذي تعامل مع ذاك النص، فانتج تلك النصوص، وفقاً للبيئة المحيطة. الجابري تعامل مع العقل الاسلامي في محيط تاريخي عربي، ولذلك نراه يستخدم مصطلح "العقل العربي" او "العقل العربي الاسلامي". وأعتقد انه مصيب في هذه الناحية. * كيف ترى تجربة الحركات الاسلامية؟ وهل تراها مؤهلة لإستلام زمام القيادة الاجتماعية والسياسية؟ - انها قادرة على تحريك الشارع وتعبئة الجماهير، مثلها مثل الحركات القومية واليسارية قبلها، لكنها غير مؤهلة لادارة الدولة! بإيجاز، قد تكون قادرة على صناعة ثورة، ولكنها عاجزة عن ادارة دولة وقيادة مجتمع. * مصطلح "الصحوة" نشأ في السنوات الاخيرة، خصوصاً بعد "النكسة". هل هناك فعلاً صحوة؟ واذا كان ذلك، فما اشكال تجسد هذه الحصوة؟ - اذا كان ما يجري باسم الصحوة يجد تجسده ومثاله في "طالبان" افغانستان، حيث ذهنية المنع والتحريم، من دون تقديم مشروع حضاري حقيقي في زمن العولمة وثورة المعلومات وهندسة الجينات وغزو الفضاء... واذا كانت الصحوة ما يجري في الجزائر، حيث يقتل الاطفال كي لا يكبروا ويموتوا وهم كافرون، فيدخلون النار، او في السودان، حيث يسود الجوع مع ان الارض قادرة على اطعام كل العرب، اذا كانت الصحوة في تدمير منجزات الحضارة البشرية، وممارسة الاستخلاف على هذه الارض، باسم الدين، او في التواكل، ولا اقول التوكل، وترك العقل والسعي في مناكبها، او في التركيز على ثقافة العنف والكراهية، بدلاً من ثقافة السلام والتسامح والتعامل بالحسنى، اذا كان كل هذا يجري باسم الصحوة وتحت مظلتها، فأقول لك انه في الحقيقة غفوة وكبوة ونكسة. فالصحوة تعني الوعي، واعتقد ان ما يجري في حالتنا هو غياب الوعي. * هل هنالك فعلاً مشكلة يختص بها العقل العربي وبنيته؟ وهل هي قابلة للتطور والتحسن؟ وهل الاشكال فيها تقني او ثقافي؟ - عندما نقول "العقل العربي" المقصود هو الآليات المعرفية "الابستمولوجية" التي يستخدمها هذا العقل للوصول الى الحقيقة، والنتاج الحاصل من هذه العملية، العقل العربي بهذا المعنى هو عقل قياسي مدرسي، بمثل ما كانت الفلسفة الاوروبية في العصور الوسطى، اي انه غير علمي بالمعنى الحديث للعلم، مثل هذا العقل اي العقل المدرسي القياسي، غير قادر على استيعاب منجزات الثقافة الحديثة او التعامل معها، لأن هنالك تناقضاً في الاسس المعرفية بين العقل العلمي الحديث، والعقل المدرسي التقليدي، قابلية التطور مشروطة بنوع من القطيعة المعرفية مع العقل المدرسي، كما فعلت الامم الحية من قبلنا، وبغير ذلك سوف نبقى ندور في حلقة مفرغة. * غياب النزعة الانسانية في الخطاب العربي الاسلامي ما سببها؟ - سببها غياب مفهوم الانسان، وحقوق هذا الانسان، وفق الفهم الحديث - الادلجة السياسية المفرطة في هذا الخطاب على حساب الجوانب المعرفية - التعميم المفرط في مقولات هذا الخطاب على حساب التفصيلات - كون الخطاب العربي خطاب تحريضي وليس معرفياً - عدم وجود مفهوم محدد للفرد المحسوس في هذا الخطاب. * كيف تقوّم مشاريع محمد عابد الجابري، محمد اركون، حسن حنفي، محمد عمارة، محمد جابر الانصاري، عبدالله الغذامي؟ - محمد عابد الجابري، جهد جبار ورائد، ولكن يعيبه التحليل بنوع من الانحياز التاريخي لنزعة مغاربية تقلل من شمولية العمل وصدقيته. محمد اركون: نخبويته المشروعة واكاديميته المفرطة تقللان من مدى تأثيره، فليته يحاول ان يقدم نسخة شعبية من مشروعه ليكون التأثير اكثر قوة. حسن حنفي: كان بامكانه ان يقول ما يريد من دون اسهاب لا مبرر له. محمد عمارة: خطابه تنقصه الدقة، يقول كل شيء، ولا يقول شيئاً في الوقت نفسه. محمد جابر الانصاري: لو لم يكن خليجياً لاحتفي به اكثر، انه مفكر يضع النقاط على الحروف. عبدالله الغذامي: باحث عنيد عن الحقيقة، فلعله يجدها أخيراً. * لماذا تركي الحمد من اقدر الناس على اقتحام ما يسمى بالممنوع بأنواعه؟ - لا ادري، لكني اشم رائحة خبث في هذا السؤال، خبث ابيض ان صح التعبير، المهم ليس بسيطاً، فأنا اؤمن بأننا نعيش حياة واحدة، والحياة من دون غاية لا معنى لها. من هذا المنطلق احاول ان افعل شيئاً يتفق مع غاية الحياة كما اراها، مهما كانت التضحيات، والا ما فائدة الثقافة ودور المثقف في مجتمعه؟ قد يسعى بعضهم الى جاه او منصب او نحو ذلك، وهذا حق من حقوقه، ولذلك يحجم عن التصريح بما يؤمن به في اعماقهم اما بالنسبة لشخصي الضعيف، فأنا لا اسعى لشيء من ذلك، ولذلك تجدني لا اخشى الخلق بل اخشى الخالق فقط. * تنادي بالانتصار للخطاب التنويري التقدمي على حساب الخطاب الظلامي الماضوي - مع نسبية هذه التوصيفات - لكن الا ترى ان ما يدعوه المثقفون العرب بالخطاب الماضوي، هو الخطاب القادر على الحركة والفعل وخلق طاقة حيوية لدى الشارع العربي الذي لا يتفاعل كثيراً مع آراء وتحليلات المثقفين التقدميين الذين يحرثون في الهواء؟ - انا لا أنادي بأي من الخطابين الانفي الذكر. فكما ذكرت الاستنارة او الظلامية من المسائل النسبية. انا انادي بالخطاب العقلاني، ان تكون تنويرياً لا يعني ان تنخلع من الاسلام، لكن شتان بين الاسلام والاسلاموية. اما كون التقدميين يحرثون في البحر، فذاك صحيح الى حد كبير، نتيجة عدم انطلاقهم من آليات الواقع المعاش. فاذا كان الاسلاميون يعانون من الغربة الزمانية، فان ما يسمى بالتقدميين يعانون من الغربة المكانية. وقد اسهبت في شرح هذه النقطة في كتاب الثقافة العربية في عصر العولمة. * ذكرت في بعض كتاباتك ان المجتمع الخليجي كان سائراً - اسوة بغيره من المجتمعات - باتجاه التحديث، لولا ان النفط والمال اعطى حقنة حياة للقيم التقليدية. ورأى الخليجي ان بامكانه ان يأخذ بأساليب الحياة العصرية من دون الحاجة الى التخلي عن قيمه تلك، هل ما زلت عند رأيك هذا؟ - كنت اتحدث عن الحداثة وليس مجرد التحديث، وهناك فرق بين الاثنين. الحداثة موقف ثقافي، تغير ثقافي، فيما التحديث عملية تغير اجتماعي، تعبر غالباً عن تجسد فكرة الحداثة. ولكن الذي حدث في المجتمعات الخليجية هو تحديث من دون حداثة، وذلك راجع لنوع التنمية التي حدثت التي حافظت على التقليد مع استمرار عملية التحديث، مثل هذه التنمية ما كانت ممكنة من دون مداخيل الطفرة. ولكن هذا الوضع بدأ في التغير الآن، مع انخفاض هذه المداخيل، وهدوء الطفرة. حديث يطول، وتجد له اجابة اكثر في كتابي "دراسات ايديولوجية في الحالة العربية". 1804 كلمة