انقلوا عني، من عرف العطاء، لا يصيبه السقم أبدا، العطاء حياة وغذاء، جمله نقلتها بدوري عن الفيلسوف الأمريكي (ايمريسون) وهو القائل أيضاً، أتعس الناس إنسان لا يعطي وهو يملك، والحياة بدون عطاء كما يقول جبران خليل جبران، شجرة لا أزهار لها ولا ثمار، وأقول إنه بدون العطاء، تصبح الحياة مساحة من الخلاء، والأرض لا تعدو أرضا، والشمس لا تعدو شمسا، ويصبح المحتاج كجزيرة رفعها البحر فانحسرت عنها المياه من جميع الجهات، وقيمة العطاء الحقيقي، حين لا تتوقع مقابلا له، وما أكثر الكتب والمقالات والمقولات، التي كتبت عن صفة العطاء المحركة للكون، ولكن هل يوجد عطاء حقيقي نوراني في الواقع؟ نعم حدث وفي (كنساس ستي) بالذات، وفي هذا الوقت الذي العالم شبه ظلام، حيث بعض الطلبة الفقراء، ممن هم في المدارس الحكومية، ممن يعتبرون وجبة الإفطار الصباحية، ووجبة الغذاء، عنوانا كبيرا لنعم الحياة، بكل ما تجود به هذه الحياة، ثم جاءت كورونا، لتعزل هؤلاء الطلاب عن مدارسهم، وبالتالي تحرمهم نعيم هاتين الوجبتين المجانيتين، وتجعل من تعايشهم مع الواقع تعايشا مع المستحيل، فجأة وجدت هذه الفئة الفقيرة المسحوقة الموجوعة الممزقة، ممن هم فقط رقم في السجلات المدنية، في ذاك المجتمع الرأسمالي، أن الهواء صار لزجا، وأن الجدران تتعانق ضاغطة، وهم محصورون في كوكب خشبي مهدد بالاحتراق، ولأن الناس طيبين بما يكفي، ولأن المعاني تشع كالنجوم في الحياة، تبنى اللاعب (باترك ماهومس) حملة، والذي قاد فريقه (كانساس سيتي تشيف) إلى أول بطولة سوبر بول، منذ نصف قرن، وشاهدها 140 مليون مشاهد عبر شاشات التلفزيون، هو ورفاقه للتبرع بملايين الوجبات لكافة مدارس (كنساس سيتي) ليس لفترة الإقفال المؤقتة بسبب فايروس كورونا، بل وعندما تقفل المدارس في الصيف والعطلات الرسمية أيضاً، تخيلوا، كان التبرع بمثابة رش السكر على أطراف هؤلاء التلاميذ الغلابة وعوائلهم، غابة حب شاسعة كان ذاك اللاعب ورفاقه، ما إن تضع رأسك تحت ظلها حتى تستحيل إلى كتلة ريش من العطف والحنان، ما أجمل أن تجد منارة مضيئة في محيط مظلم وأنت في عز الغرق، تبرع مثل قطرات العسل الكبيرة العالقة على قوائم النحل، العصافير التي تطلق من شرفات القلب تصل دائما إلى القلب، هذه الوقفة اختصرتها قدر المستطاع، والهدف منها واضح، فالبقاء لله، لا المال يدوم، ولا الصحة، لا خلود لأحد، العمل الصالح هو الأبقى، موقف إنساني زادني يقينا بأن اللاعب الأمريكي، لديه وعي أكبر ونضج واستشعار بالواجب الوطني الذي تفرضه عليه المرحلة والموقف، تتجاوز لقطات السناب شات التوعوية على شاشات الهواتف النقالة، والتي اكتفى بها معظم اللاعبين لدينا.. ولقد كثرت مهازل هذه المرحلة لدينا، حتى أصبح ما يبكي فيها مضحكا، واضحك تضحك الدنيا معك، على قول (ديلا ديلرو يكلوكس) أول من قالتها، وهي شاعرة أمريكية وكررتها في قصيدة شهيرة لها، اسمها (العزلة) ونشرت في صحيفة نيويورك صن، أرددها اليوم وأنا أشاهد أحد لاعبينا الأجانب المشهورين والمحبوبين، ممن حققوا ثروة طائلة، يكتفي بتنظيف منزله وشرب القهوة، كانت هذه مشاركته في هذه الأزمة، واضحكوا فالضحك الزائد يسيل الدموع كالبكاء، ويبقى الاحترام مرادفا للحب.. وأحياناً أهم، وسلامتكم!! * كاتب سعودي [email protected]