أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، يوم الأربعاء الماضي، مرسوماً رئاسياً بوقف الهجرة للبلاد مؤقتاً، لمدة ستين يوماً، من أجل وقف انتشار وباء كورونا.. وللحفاظ على وظائف مواطني أمريكا العظمى! الهجرةُ للولايات المتحدة، هي المصدر الأساس لتكوين الشعب الأمريكي، الذي تقوم هويته الوطنية على أساسِ الإقليم لا الدم. تاريخياً: شعب الولاياتالمتحدة، جديد بحداثة البلاد، نفسها. لا يشكل السكان الأصليون من الهنودِ الحمر، سوى (1.5%)، بينما الأغلبيةُ الكاسحةُ من المهاجرين، وإن كان هناك تفضيلٌ لشعوبِ أوربا البيضاء. تقريباً: لم تنقطع الهجرةُ للولايات المتحدة، حتى في أوقاتِ الحروب، ليصلَ أعدادُ المهاجرين اليوم إلى 1.8 مليون مهاجرٍ سنوياً منهم حوالى 700 ألف، من خارجِ الولاياتالمتحدة، بينهم 55 مليوناً اُختيروا بطريقةِ عشوائيةِ القرعة. ما يميز الشعب الأمريكي، بسببِ الاعتماد على الهجرة في تغذيةِ مواردهِ البشرية، أن ما يربطهم ليس متغيرَ الهويةِ القومية، بل سمة المواطنةِ الأمريكية. هذا ما جعل الولاياتالمتحدة بوتقةً جاذبةً لانصهارِ شعبِها في ثقافةٍ أمريكيةٍ جامعة، من أهم مواصفاتها تعدديةٌ اجتماعيةٌ تربطها قيمٌ ليبرالية، تضمن حقوق المواطنة.. وتحدُ من تعسفِ الدولة، وجور الحكومة.. وتتسعُ لممارسةِ الحريات الفردية، مع الحفاظ على الخلفية الثقافية والدينية والفخر بالأصول العرقية. يتواصل الأمريكيون بلغةٍ واحدةٍ (الإنجليزية)، وإن كانت ليست لغةً رسمية، لفتحِ آفاقَ تحقيقِ أحلامِهم بإفساحِ المجالِ لإبداعاتهم وطاقاتهم الخلاقة.. الأمر الذي جعل من الولاياتِالمتحدة قوةً كبرى.. وأمةً عظيمة، وشعباً غنياً بإمكاناتِه وقدراتِه وإبداعاتهِ. وقفُ الهجرةِ، وإن كان مؤقتاً، إلا أنه يعكسُ توجهاً شعبوياً، يُفْقِدُ الولاياتُالمتحدةُ ميزةَ تعدديةِ مجتمعها، بهويةِ مواطنةٍ متعايشةٍ سلمياً، بالرغم من تفاوتها الثقافي والعرقي والديني، لتتحولَ إلى مجتمعٍ تستبدُ فيه الأغلبية، وهو ما حاول تفاديه المؤسسون الأوائل للبلادِ عند وضعِهم الدستور. كما أن وقفَ الهجرةِ من شأنِهِ حرمانُ البلادِ من قدومِ العقولِ إليها، وبالتالي: عرقلة تقدمِها.. وكساد اقتصادها.. وضغف قوتِها، وتعطيل عجلةِ تفوقِها العلمي والتكنولوجي والأخلاقي. خطابُ الرئيسِ ترمب الشعبوي، الذي يحملُ عبارات أمريكا أولًا وأمريكا العظمى، إنما يخفي وراءَه قيماً شعبوية غير متسامحةٍ، تتعارض مع القيمِ الليبرالية، الحاكمة للممارسةِ الديمقراطيةِ المبدعةِ للتجربةِ السياسيةِ الأمريكية. هذا الأمرُ، مع الوقتِ، من شأنِه أن يقوضَ صيغةَ الاتحاد الفيدرالي.. ويَدُكَ الدفاعات الحصينة للحقوق الفردية وحقوق المواطنة المدنية والسياسية.. ويهدمَ صيغةَ فصلِ السلطات. تَحَوّلٌ مثل هذا، لو تطورَ في الولاياتِالمتحدة، من شأنِه ألا ينالَ من استقرارها الداخلي فقط، بل يضرُ بسلامِ العالمِ وأمنِهِ. وقفُ الهجرةِ إلى الولاياتِالمتحدة، في مجتمعٍ يقومُ أساساً لتجديدِ مياهِ نهرهِ الإنساني الرئيس من روافدِهِ الخارجيةِ، في أعالي البحار وعبر القارات، لهو مؤشرٌ خطيرٌ، لبدءِ انهيارِ أكبرِ تجربةٍ إنسانيةٍ عرفها التاريخُ الحديثُ، لنشأةِ الدولِ.. ومنعة واستقرار نظامِها السياسيِ الداخلي... بل حتى توازن واستقرار النظامِ الدولي. * كاتب سعودي [email protected]