يقولون إن كتابة الصديق عن صديقه «شهادة مجروحة فيها» بمعنى أنها قد لا تكون محايدة وتغلب عليها صفة المجاملة. شخصيا أزعم أن كتابة شخص عن صديقه أقرب إلى الواقع وقد ينطوي على أشياء ليس من السهل معرفتها لو أن الكاتب لم يكن صديقا ومقربا من الشخصية المترجم لها. والشخصية التي سنتناول سيرتها فيما يلي ليست صديقة فحسب وإنما أيضا قريبة مني وجدانيا وتجمعني وإياها مشتركات واهتمامات كثيرة قلما يشترك فيها اثنان. قد تختلف الرحلة التعليمية من حيث المسار والتخصص ومكان التحصيل بين شخصين، لكن هذا لا يهم. المهم هو البدايات التي عادة ما تؤسس للتوجهات والاهتمامات والهوايات والانشغالات في مراحل النضج الفكري، والتي تجذبهما لبعضهما البعض. سمعت عنه الكثير خلال رحلاتي المتكررة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، وقرأت له العديد من مقالاته المتنوعة وهو يحلق من خلالها بين التاريخ والاجتماع والثقافة والسياسة كفراشة حائرة لا تدري أين تهبط ومن أي زهرة تستمد غذاءها. كما أني سمعت ممن يعرفونه حق المعرفة أنه «دودة كتب» منذ صغره أي أنه يقرأ في كل شيء ويتفحص كل كتاب ولا يضعه جانبا إلا بعد أن يتناول منه جرعة معرفية فائضة، فكان ذلك سر نبوغه وريادته الثقافية والأدبية والتاريخية في الإمارات عموما وفي دبي خصوصا. اكتشفت هذا المنحى لديه حينما هاتفني من دبي صبيحة يوم صيفي حار يسألني عن كتاب كان قدر صدر لي منذ بضعة أيام، فأجبته بأن نسخة مهداة من الكتاب ستصله خلال أيام معدودات، لكني فوجئت به يتصل في اليوم التالي ليقول لي إنه لم يطق الانتظار فأوصى مسافرا قادما إلى البحرين كي يشتريه ويحضره له. ثم فوجئت به خلال عدة أيام يكتب في الصحافة مقالا عن كتابي يشيد بمحتواه ويأسف أن الحظ لم يسعفه حتى تاريخه للالتقاء شخصيا بمؤلف الكتاب الذي وصفه بوصف مبالغ فيه كثيرا هو «العالم الموسوعي الخليجي». وحينما التقينا وجها لوجه للمرة الأولى في مسقط رأسه بدبي سرعان ما فعلت الكيمياء الشخصية فعلتها وصرنا أصدقاء وكأننا نعرف بعضنا البعض منذ أيام الشباب الخوالي. ثم اكتشفت أن ما يجمعنا ليس فقط الهم المعرفي المشترك والهوايات المشتركة فحسب، وإنما أيضا صلة مصاهرة قديمة غير مباشرة أخفتها أغبرة موجات هجرة الأجداد والجدات وتنقلاتهم ما بين الكيانات الخليجية العربية يوم أن كانت الحدود مجرد خطوط وهمية غير معترف بها من أبناء المنطقة. أول ناقد أدبي في الإمارات يعد الأديب والمؤرخ والكاتب «عبدالغفار بن غلوم حسين بن عبدالله الريس السهلاوي» واحدا من ألمع رجال الإمارات الذين وهبوا جلّ حياتهم للبحث والكتابة التاريخية والأدبية والاجتماعية، وتفرغوا لإلقاء المحاضرات والمشاركة في الندوات المعرفية ورئاسة عدد من الجمعيات والاتحادات ذات الصلة، وذلك من بعد سنوات طويلة قضاها في خدمة وطنه كموظف حكومي. وهو إلى جانب ذلك أول ناقد أدبي في الإمارات، وأول كاتب تراجم منظم، وأول كاتب مراجع للكتب (كل هذه الصفات مستعد أن يتنازل عنه صاحبه إذا جاءه أحد بدليل مناقض على حد قوله). ولو لم يكن عبدالغفار حسين كذلك لما قلده الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وشاحه ووصفه ب «الشخصية الوطنية بامتياز» وقال عنه إن «أعمال عبدالغفار حسين تثري التجربة الأدبية للوطن»، ولما وافقت جامعة زايد بمدينة أبوظبي على تخصيص كرسي للأدب العربي باسمه عبر وقف قدمه بقيمة خمسة ملايين درهم، ولما انهالت عليه التكريمات من ندوة دبي للثقافة والعلوم ومن مؤسسة العويس الثقافية ومن مهرجان طيران الإمارات للآداب 11 وغيرها، ولما نُعت ب «المرجع المعتمد في تاريخ دبي والمنطقة». ولد عبدالغفار حسين في بر ديرة دبي في عام 1936، ونشأ في كنف أسرة محافظة ثرية. والدته هي ابنة الشيخ المتصوف عبدالله المريد وأخت الشيخ المتصوف عبدالرحيم المريد أحد مدرسي المدرسة الأحمدية (نسبة إلى الشيخ المحسن أحمد بن دلموك الفلاسي الذي راودته فكرة تأسيسها قبل زمن طويل من افتتاحها سنة 1912 كأول مدرسة شبه نظامية في دبي)، علما أن الشيخ عبدالرحيم المريد أحيا احتفالات المولد النبوي على مدى عقود في دبي إلى تاريخ وفاته في عام 2007 عن عمر ناهز 95 عاما. أما والد أديبنا فهو التاجر «غلوم حسين الريس السهلاوي» أحد أعيان دبي المعروفين، وكان قد حلّ في دبي مع والده قبل أن يكمل العشرين من عمره، وتحديدا في عام 1910 أو نحو ذلك قادما من بلدة «فيشور» (قرية كبيرة نسبيا في مقاطعة لارستان، ولا تبعد كثيرا عن قرى ومدن عوض ولار وخنج وكراش) حيث كان جد صاحبنا عمدة لبلدته. سكن غلوم حسين بعد وصوله إلى دبي بحرا بمنطقة «الصبخة» في بر ديرة، ثم انتقل إلى منطقة شارع النخيل (شارع يوسف باقر سابقا)، وصادق تجار وشيوخ زمنه، وفتح بيته لمشائخ المتصوفة من بلاد فارس وبلاد الأفغان، وعُرف بكرمه وسخائه وتصدقه على الفقراء والمحتاجين. كما عُرف عنه تشجيعه لأبنائه وعموم الناس على القراءة والكتابة، كونه كان متعلما، ولعل هذا يكشف لنا سر اهتمام ابنه عبدالغفار بالمعرفة والبحث منذ صغره، وأيضا سر مساهمته المشهودة في الحقول الأدبية والفكرية والصحفية والحقوقية لاحقا. كان والد أديبنا ضمن المقربين من الشيخ حشر بن مكتوم آل مكتوم أخو الحاكم الأسبق الشيخ سعيد بن مكتوم آل مكتوم ووالد الشيخ محمد بن حشر آل مكتوم الرئيس الأسبق لمحاكم دبي (توفي في 2016)، ولهذا كان يقضي فصل الصيف في مزرعة الشيخ حشر في «شناص» بمنطقة الباطنة العمانية، حيث كان مولعا بما تضمه هذه المنطقة من بساتين النخيل والمناظر الطبيعية الخلابة وما تتميز به من هدوء جالب للراحة ومعين على التأمل. أما وفاته فقد كانت في بدايات سبعينات القرن العشرين بمدينة بومباي الهندية على أثر جلطة في الدماغ. لم يتأثر عبدالغفار بوالده لجهة تعلم القراءة والكتابة وحب الطبيعة والجمال فحسب، وإنما تأثر به أيضا لجهة توسعة معارفه ومداركه من خلال الانكباب على قراءة كتب الأدب والتراث والشعر والتنقيب فيها بشغف المتعطش للعلم والمعرفة. وفوق هذا وذاك تأثر ببيئة والده التجارية المرتكزة على مبادئ الصدق في التعامل، والأمانة، والكرم، وتجنب الجشع، وقول الحق دون مجاملة. فكانت المحصلة أن غدا الرجل أديبا مجيدا وتاجرا ماهرا، وشخصية مرموقة حاضرة في المشهد الوطني لبلاده، بحيوية ونشاط ذهني متقد. من الظلام إلى نور العلم لم يستسلم عبدالغفار حسين للصعوبات الجمة التي أحاطت بالعملية التعليمية في زمنه، فبعد أن درس في الكتاتيب على يد المطاوعة ثم بالمدرسة الأحمدية، قرر أن يعلم نفسه بنفسه عبر الاطلاع والتثقف الذاتي والإيمان القوي بأن القراءة والكتاب خير معلم وخير مصدر للمعرفة وأفضل وسيلة لتوسيع مدارك الإنسان، أي على طريقة عباس محمود العقاد الذي لم يتلق تعليما أكاديميا، لكنه برز كواحد من عمالقة الأدب العربي بفضل الكتاب والقراءة. كما كرس جانبا من وقته لتعلم اللغات، من منطلق أن معرفة الإنسان باللغات الأجنبية تفتح له نوافذ للوقوف على ثقافة الشعوب الأخرى ونتاجها الفكري وموروثها الثقافي، فتعلم الإنجليزية لغة التجارة والأعمال، وتعلم الفارسية لغة الشعر والجمال، وتعلم الهندية لغة الحضارة والفلسفات، الأمر الذي سهل الطريق أمامه للطيران خارج فضاءات لغته العربية الأم. والحال أن التعليم النظامي لم يلعب دورا محوريا في التكوين الفكري والثقافي للرجل. وحده الكتاب كان أداته للعبور من ظلام الجهل إلى نور العلم. لذا نراه يقول في جلسة رمضانية استضافها مجلس جمال بن حويرب الثقافي مساء 14 أغسطس 2011 ما مفاده أن البيئة الأمية في صباه لم تكن تشجعه وتشجع أقرانه على قراءة كتب غير القرآن، وأن والدته لم تكن مرتاحة من انكبابه على القراءة لاعتقادها أن كثرة القراءة خارج الكتاب الكريم تقود إلى الجنون والهلوسة. لكنه رغم ذلك واصل القراءة واقتناء الكتب خلال العقود الستة التالية من عمره حتى صارت لديه مكتبة تحتوي على أربعة آلاف كتاب ورقي. ويستدرك صاحبنا كلامه هذا ليؤكد أنه لم يقرأ كل كتبه، وأنه لا يعتقد أن هناك شخصا قرأ كل ما يقتني من كتب، مشيرا في هذا السياق إلى الأديب الإنجليزي «سومرست موم» الذي سألوه وهو على فراش الموت عما كان يتمناه ولم يتحقق فأجاب «كنت أتمنى أن أقرأ كل كتبي». بدأ الرجل حياته المهنية موظفا في بلدية دبي منذ تأسيسها سنة 1957 حينما كانت الحياة في دبي بسيطة وبنيتها التحتية متواضعة وسكانها قلة وحراكها ساكن، فساهم في المرحلة الصعبة من تخطيط دبي زمن المغفور له الشيخ راشد بن سعيد، واستطاع بفضل اجتهاده ومثابرته وإخلاصه أن يتسلق السلم الوظيفي إلى أن صار نائبا لمدير البلدية بدرجة مدير، وهي الوظيفة التي أتاحت له تمثيل بلاده في العديد من المؤتمرات والندوات العربية والعالمية، وأيضا الالتحاق بدورات في الحكم المحلي في مصر وبريطانيا. ونجد تجليات شغفه بالكتاب والقراءة تظهر حتى وهو على رأس عمله الحكومي. فقد كان ضمن من ساهم في صدور قرار المجلس البلدي في مايو 1962 بإنشاء مكتبة شعبية بدبي تضم الثقافات المختلفة، لتصبح منهلا للجميع، فكانت تلك بمثابة الخطوة الأولى لظهور «مكتبة دبي العامة» (أقدم وأول مكتبة عامة في الإمارات بالمفهوم العلمي الحديث للمكتبات العامة) في عام 1963 بجهود وتبرعات ثلة من المواطنين ورجال الأعمال المخلصين وبدعم من الحاكم آنذاك الشيخ راشد بن سعيد رحمه الله. أخبار دبي غير أن لعبدالغفار حسين فضل آخر لا يقل أهمية أثناء شغله منصب نائب مدير بلدية دبي، والإشارة هنا إلى دوره الكبير في تأسيس وتطوير مجلة «أخبار دبي» التي تعد إرثا ثقافيا لدبي ولدولة الإمارات ومنجما للمعلومات والحقائق التاريخية المهمة بالنسبة للباحثين في تاريخهما. ذلك أن المجلة حينما صدرت سنة 1964 كانت في بادئ الأمر على هيئة «تابلويد» من صفحتين محتويتين على التقرير الشهري لبلدية دبي وأخبار المناقصات، لكنها شهدت قفزة نوعية بعد تولي عبدالغفار حسين منصب نائب مدير البلدية، فصارت تهتم، إضافة إلى أخبار البلدية، بأخبار البلاد وحاكمها والمراسيم التي يصدرها، وراحت تسعى إلى استكتاب قامات الرأي والفكر والأدب، بل قام صاحبنا بتغيير شكل المجلة، واستخدام الورق المصقول في طباعتها، وإصدارها أسبوعيا بدلا من كل شهر. مؤسس متحف الحصن ومن مساهماته أيضا المشاركة بخبرته التاريخية والثقافية في تأسيس متحف حصن الفهيدي الواقع جنوبي خور دبي، وهو المتحف الذي افتتح عام 1971 ليكون معرضا يحكي تاريخ دبي وتراثها الأصيل، ثم انخراطه مع 30 آخرين من مواطنيه في تأسيس «إتحاد كتاب وأدباء الإمارات» في مايو 1984 بمدينة الشارقة، حيث تولى رئاسة هذا الكيان لأكثر من أربع سنوات فصار يلقب بالأب الروحي للإتحاد، ثم توليه رئاسة مجلس أمناء مؤسسة سلطان بن علي العويس على مدى 16 عاما، علما بأن هذه المؤسسة أشهرت رسميا في مارس 1994 كمؤسسة ثقافية مستقلة من بعد أن كانت جائزة باسم صاحبها (سلطان بن علي العويس) منذ ديسمبر 1987. ولاننسى هنا أيضا عضوية أديبنا في «ندوة الثقافة والعلوم» في دبي وتبرعاته السخية لهذا الجسم الثقافي النشيط، فضلا عن حضوره اللافت في كل أنشطته وفعالياته، جنبا إلى جنب مع رمز مهم آخر من رموز الثقافة في الإمارات ألا وهو الأديب الأستاذ محمد أحمد المر الذي يشترك مع صاحبنا في أنهما مثقفان موسوعتان مبدعان في الأدب بكل فروعه والفن بكافة تلاوينه والفكر بمختلف بوصلاته، ناهيك عن اشتراكهما في الحديث الجذاب الذي لا يمل منه بسبب اكتنازهما دوما بالمعلومة الجديدة والقصة الظريفة، والفكرة المبتكرة. ومما يجدر بنا ذكره في مجال خدمات أديبنا لوطنه أنه شارك في اللجان التمهيدية لقيام إتحاد الإمارات، فكان مثلا عضوا في لجنة البلديات والأراضي والأملاك، ولجنة الإعلام اللتين وضع فيهما عصارة تجاربه المتراكمة. وبعد ما يقارب 22 عاما قضاها الرجل في الوظيفة الحكومية قرر التفرغ منذ عام 1979 لأعماله الخاصة، حيث أسس «مجموعة شركات الساحل الأخضر» للمشاريع الصناعية Green Coast Enterprises وتولى رئاسة مجلس إدارتها، بينما تولى ابنه الأصغر محمد الرئاسة التنفيذية. علما بأن الرجل أنجب أبناء آخرين منهم ابنه البكر نبيل (متوفى)، وخالد، ثم سعيد عضو وأمين عام مجلس إدارة الهيئة العامة للرياضة في الإمارات، وهو من الشخصيات الرياضية المعروفة على المستويين المحلي والإقليمي. على أن أعمال أديبنا ومشاريعه التجارية الخاصة لم تقطع صلته بالشأن العام وشؤون الفكر والثقافة والكتابة الصحفية. إذ ظل حريصا على الاستمرار فيها بما عُرف عنه من شغف قديم مترسخ. وأحد تجليات ذلك موافقته على ترؤس أول جمعية أهلية لحقوق الإنسان بدولة الإمارات والتي تأسست في أبوظبي في مارس 2006، بهدف «نشر الوعي بين الأفراد، وتوضيح ما لهم وما عليهم تجاه المجتمع والدولة، والسعي إلى تحقيق ما يجب أن يتحقق من احترام لمبادئ حقوق الإنسان الموجود على أرض الدولة، مواطناً كان أم مقيماً، ذكراً كان أم أنثى، صغيراً كان أم كبيراً»، حيث سجل عنه قوله آنذاك «لا تخضع هذه الجمعية في مجال عملها لأي سلطة من السلطات المعنية في الدولة، وهي مؤيدة من صاحب السمو رئيس الدولة وصاحب السمو نائب رئيس الدولة». والمعروف أن أديبنا بادر، بسخائه الموروث من أبيه، إلى التبرع بمنزل من أملاكه في دبي ليكون مقرا لفرع الجمعية هناك. كتب عادل خزام في صحيفة الإتحاد (7 /3 /2019) أن أبا نبيل أصدر مجموعة من المؤلفات الهامة في الشعر والتاريخ والتراجم (منها: «سلطان العويس»، «البردة المباركة ونهجها»، «الجائزة والشعر»، «هموم وطنية»، «تريم عمران لمحات من حياته»، «قراءات في كتاب الإمارات»)، ثم استدرك قائلا: «لكن حقيقة الأمر أن المؤلفات والمدونات والمذكرات والمشاريع الثقافية التي ينوي العمل عليها كثيرة جدا. وقد زرته مرات في مكتبه ورأيت كمية الأوراق والكتب المكدسة والقصاصات التي تنتظر الجمع والتوثيق والعمل عليها لإصدارها في كتب. وأنا على يقين بأن مشاغله كرجل أعمال، ومسؤولياته الوطنية والاجتماعية لن تسعفه لإنجاز هذه المهمة إلا إذا تصدت جهة ثقافية إلى جمع هذا المخزون الكبير وإعداده للنشر بداية من اليوم وليس غدا».