يقول جورج مور «يرحل المرء من العالم كله بحثاً عن غايته ثم يجدها في بيته»، وجدت هذه العبارة، وفي هذه الأيام بالذات رائعة بلا حدود؛ لأنها توافقت مع رغبتي المحمومة ورغبه الدولة في ألّا أغادر البيت، عدت إلى المنزل مساء، غسلت يدي بالصابون والماء، فاحت رائحة الصابون البلدي، أغمضت عيني، استنشقت رائحته بعمق، أفضل هذا الصابون ومنذ زمن بعيد عن سائر أنواع المنظفات والشامبو الأخرى، اتجهت إلى الشرفة البحرية، هرباً من هذه الإشاعات المقيتة، هذا العهر العلني، لرائحة الهواء في هذه الشرفة، مذاق مختلف، خفيف مشبع بخليط فنان من عطور البحر وما زرعته من نبت وزهر، هواء حر رشيق يتسرب في أعماقي، ويسري ويتمدد في كل شراييني، أنظر فوقي، السماء تتملاني بحب، أو ربما أنا من يمتلئ زرقتها مع صبغه الغسق، بصري يشرب المشهد ولا يرتوي، أتأمل الكون، هنا الحياة وهنا الممات يا رب، وهذه الأرض والخلق لك فاحمِهم، أنت الحامي والمعافي والشافي، الهاتف يرن بجواري رنيناً متواصلاً، أخبرني جاري أنه يريد مباحثتي في أمر هام للغاية، صوته يصل إلى أذني، ويجعل شراييني تستنفر دماءها التي تجري فيها، انزعجت، دعوته للحضور، اقترب مني مشوشاً حال وصوله، نظر إليّ نظرة عميقة حزينة قلقة، أنا لا أفهم شيئاً مما يجري يا دكتور؟ الأمر مرعب! هذا الفيروس يتمدد بشراسة ذئب جائع، العالم حافل بحالات الكورونا! هل نحن في أمان؟ الكل يرتجفون في دواخلهم يا أبا فراس ويتظاهرون بالبشاشة واللامبالاة، لمحت قلقه يطل من عينيه، كان يحدثني شارد الزهن، أحسست بقلبه ينخلع من بين ضلوعه، لو أن شخصاً شهماً طيب القلب دس في يد جاري مسدساً في هذه الحظة، لأفرغه في جبينه وبكل سرور وثقة وامتنان وحتى يرتاح مما هو فيه، قلت له بعد أن هدأت من روعه، أن من أعظم مكاسب ما حدث، أن هذا الحدث الجلل كشف عورات الكثير من الأنظمة الصحية العالمية والتي كان البعض يتفاخر بتفوقها، وأزعم وأنا متخصص وأعي جيداً ما أقول، أن السعودية حتى الآن أثبتت نجاح معالجتها للموقف وبإستراتيجية واضحة وثقة كاملة، وأعلن كامل رضاي عن أداء جميع الأجهزة في التعامل مع هذه الكارثة الوبائية، لقد حققت الدولة إنجازات راقية ومتقدمة أدهشت العالم وباحترافية عالية، لقد انضمت السعودية وفي هذا الموقف إلى حزب العلم والعقل والاحترافية، وهذا حزب دائماً ينتصر، فقط يا رفيقي اتبع التعليمات من جهة الاختصاص، وابقَ في البيت، التحدي الحقيقي، هو تحدي ترويضنا لذواتنا، شعرت بأن جاري خرج من زيارته لي، راضياً، وقامته أكثر صلابة ومنسوب الثقة هائل في داخله، وعلى وجهه هدوء ورضا، والقلق طبيعي، نعم القلق يقبع في دواخلنا كلنا، كلص خفي، لا بد من التسليم بوجوده، فمنذ خلق الإنسان، خلقت معه الكوارث والمحن والأزمات، والقلق، القلق هاجس نفسي، إلا أنه للأسف يسبب أحياناً أمراضاً عضوية، ويحول نشاط الجسم إلى طاقة سلبية، ويضعف الجسد، ويحول الحياة إلى جحيم ويقصر العمر، وليس في استطاعة أحدث العقاقير الطبية أن تقضي عليه، ما لم يصل الإنسان إلى يقين أنه يكمن في ذهنه، وأنه غالباً نتيجة توجيه خاطئ لملكة الخيال، وفي الغالب، معظم الناس يقلقون من أشياء غريبة وعجيبة، أعرف أحدهم يضربه القلق، ما إن يعزم على السفر لقضاء إجازته الصيفية، هل أحكمنا قفل الأبواب؟ هل أحكمنا قفل الغاز، هل سنتعرض للسرقة في الخارج؟ وهل وهل وهل؟ يحتاج إلى إجازة بعد إجازته، وسيدة لم تنعم بيوم واحد في حياتها من القلق منذ سنوات، تنام بعد أن ينام الخدم وتستيقظ قبلهم، قلقة عن ماذا سوف يفعلون في غفلة منها، سيدة أخرى لا تغمض عينها قبل أن يعود أبناؤها من الخارج، وفي الصباح ترتدي معطف القلق، غادر الأولاد فمتى سيعودون سالمين، وكبر الأولاد وغادروا المنزل ولم يغادرها القلق، تحول القلق على الأحفاد، القلق جزء لا يتجزأ من حياتنا، ولكن علينا أن نتحكم فيه ولا نستسلم له، حتى لا يتحكم فينا ويقضي علينا، ولقد أجريت دراسة في هذا الشأن حول حالات القلق عند أكثر الناس، فتبين أن 40% منها بسبب أشياء لن تحدث إطلاقا، و20% منها بسبب أشياء تحدث أو حدثت ولا سبيل إلى تغيرها ولو استمر القلق بشأنها طول الحياة، و12% بسبب أمراض وهمية، و10% بسبب أشياء أخرى منوعة، أما الأشياء التي تقتضي القلق حقاً فوجد أنها لا تتجاوز 8% من الحالات، لقد رفض المناضل وأشهر سجين سياسي، (نيلسون مانديلا) إطفاء الشموع في عيد ميلاده الخامس والثمانين قائلاً: «إنني كرست حياتي لإضاءة الشموع لا العكس»، نحن نموت بالقلق ونحيا بالإيمان، اعقلها وتوكل على الله، قالها المصطفى صلى الله عليه وسلم، لخصت كل ما قيل وسيقال! * كاتب سعودي [email protected]