كانت اللغة العربية لغةً محكيةً مرتبطةً بسليقة أهل الجزيرة العربية وفطرتهم، تثريها بيئتهم بما يناسبها من تعابير وألفاظ. ومع بزوغ نجم الدين الإسلامي واتساع رقعة بلاد المسلمين، وشروعهم في بناء الدولة، كثُرت المراسلات بينهم، وقادت فتوحاتهم شعوباً لم تنطق العربية قط، فأصبحت جزءاً من المجتمع العربي، فصارت الحاجة ملحة لضبط قواعد اللغة العربية حفظاً لها مما يداخلها ويخالطها من الشوائب التي تشوبها.. وقد كان ذلك أمراً شبه مستحيل، لولا وجود عدد من علماء اللغة الذين رهنوا حياتهم لها، ومنهم: أبو بكر عبدالقاهر بن عبدالرحمن بن محمد الجرجاني (400-471ه)، ولد في جرجان، نشأ فقيراً لم يجد مالاً يمكنه من أخذ العلم خارج مدينته، وقد عوضه الله بعالِمين كبيرين كانا يعيشان في جرجان هما: أبو الحسين بن الحسن النحوي، والقاضي أبو الحسن الجرجاني. نقل عن سيبويه والجاحظ وابن قتيبة وقدامة بن جعفر والآمدي. مؤلفاته: له عدة مؤلفات منها: كتاب «المغني» ويقع في ثلاثين مجلداً، وكتاب «دلائل الإعجاز» وهو من أهم كتبه، وأكثرها قيمة في ميدان النقد الأدبي والبلاغة. اهتم بدراسة الصورة الأدبية وأثرها في المتلقي وروعتها، فاهتم بدراسة الاستعارة وأنواعها، والتشبيه وأقسامه والتمثيل وتأثيره، بطريقة تحليلية رائعة. ويعتبر مؤسس علم البلاغة، ويعد كتاباه: أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز من أهم الكتب التي أُلفت في هذا المجال، واستحق أن يكون من كبار أئمة العربية والبيان، كما يقول السيوطي في «بغية الوعاة». منهجه العلمي: ويرى الجرجاني أن الفصاحة والبلاغة، هما مصدر الإعجاز في القرآن، لا عن طريق تخير الألفاظ ولا الموسيقى ولا الاستعارات وألوان المجاز، وإنما عن طريق النظم، إذ إن نظم القرآن وتأليفه، هما مصدر الإعجاز فيه، ويقول الجرجاني: «فإذا بطل الذي أعجزهم من القرآن في شيء مما عددناه.. لم يبقَ إلا أن يكون في النظم والتأليف». وحمل الجرجاني على النقاد الذين كانوا ينحازون إلى اللفظ ويقدمونه على المعنى، وانتقد ثنائية اللفظ والمعنى عند «ابن قتيبة»؛ مبرراً بأنها خطر على النقد والبلاغة، فتقديم اللفظ، قتل الفكر، لأن الفصاحة ليست في اللفظة، وإنما هي في العملية الفكرية التي تصنع تركيباً فصيحاً من الألفاظ.