في رحلة نصف قرن، مزج محمد عبده ألحانه الأثيرة بحنجرته الآسرة، ما دفع الرئيس التونسي لتلقيبه ب«فنان العرب»، أثناء حفلة غنائية كبيرة أحياها في ثمانينات القرن الماضي، ليصبح بعدها سفيراً للأغنية السعودية إلى العالم العربي. وهنا، ينثر صاحب الرصيد الأوفر من الجماهير بعض مذكراته على صفحات «عكاظ» ويكشف الكثير من أسرار الفن، فضلاً عن القصص التي كانت تصاحب بعض أغانيه الشهيرة. 1 بدأت بال«كورال» قبل 50 عاماً خلال فترات متعددة من مشواري الفني كثيراً ما تلقيت سؤالاً عن أول أغنية لي في حياتي.. أغنية سجلتها لي الإذاعة رسمياً. في بداياتي، لفتى دون الثالثة عشرة كان عشقه للفن والموسيقى والغناء يدفعه دفعاً إلى البحث عن النجاح ثم النجومية من خلال الإذاعة التي دخلها من باب برامج الأطفال والكورال وغيرها، لكن حلمه وعينه كانت على القسم الموسيقي في الإذاعة، وهو يعي تماماً أن بوابة هذا القسم هي بوابة العبور لتحقيق الأماني في عالم الفن. ظللت أعمل باجتهاد في أي بقعة ضوء أقدم فيها أثراً أو قاعدة انطلقت منها كفنان وكاسم، ومن هذه الجهود كانت مشاركتي كمردد في أشهر كورال في إذاعة جدة وهو الذي يعاد ويذاع في مواسم الحج منذ أكثر من 50 عاماً وهو تسجيل التلبية «لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك» فكنت واحداً من مجموعة الأداء فيه. كما وقع عليَّ الاختيار مردداً «كورال» في تسجيل الأغنيات وأناشيد الأطفال ولعل أبرزها ترديدي خلف الفنان التشكيلي العالمي فيما بعد ضياء عزيز ضياء الذي بدأ مغنياً في برامج الأطفال بأعماله الشهيرة لدى ذلك الجيل «النغري النغري» التي أعدها طارق عبدالحكيم، «أنا بدي أصير طيار»، شاركت يومها في هذه الأغنيات كمردد، الأمر الذي سهل علي دخول القسم الموسيقي الذي طالما وضعت عيني عليه معتبراً إياه المنطلق لطموحي الكبير في عالم الفن والموسيقى. وتحقق لي هذا الرجاء كأول مرة أدخل فيها القسم الموسيقي مطرباً في تلك السن المبكرة بعدما دخلته كمردد أو أقل، صحبة الموسيقار عمر كدرس ليغني لحنه عن ليلة الشك في دخول شهر رمضان المبارك «اتجمعوا الخلان»، وهي أغنية ترحيبية بالشهر الكريم من كلمات الإذاعي والشاعر الغنائي صالح جلال وعادة لا تذاع إلا ليلة استقبال رمضان المبارك وكل الإذاعات العربية وإذاعات الدول الإسلامية كأغنية ترحيبية بالشهر الكريم، وهي أول أغنية على الإطلاق يتم تسجيلها أمام مايكروفون إذاعة جدة، والتي تذاع حتى الآن، ومثالنا في ذلك أغنية الفنان الكبير محمد عبدالمطلب «رمضان جانا.. وفرحنا به بعد غيابه وبقى له زمان.. أهلاً رمضان». 2 الغناء.. من الأزقة وأسطح المنازل إلى «القصور» منذ بدأت أغني لأستاذي عمر كدرس مثل «قالوها في الحارة» من كلمات أحمد صادق (رحمهما الله)، والتي سجلت نجاحات كبيرة في حفلات جدة والحجاز أجمع، وأصبحت أيقونة حفلات الأفراح والزواجات المقامة في الأزقة وأسطح المنازل قبل طفرة قصور الأفراح، والتي بدأت بقصر أفراح السنوسي في طريق مكة «مدخل الجامعة» بعد أن كانت الساحات والأزقة والأسطح التي تسيدها فرسانها في مكةالمكرمة والطائف وجدة العميد طارق عبدالحكيم وعبدالله محمد وطلال مداح والسيد عبدالرحمن «الابلاتين» طاهر كتالوج، الذي كان يشعل مناسبات مكة بأغنياته الجريئة والمحببة للجمهور، إذ كان معظمها تركيب الألحان الشهيرة على كلمات حاروية خارجة عن القانون.. بل عن أعراف وقوانين الحارة. ومن المعروف آنذاك، أن المطرب الجديد على الساحة يقدم بداية ألحان شهيرة، أو حتى أشهر أغنيات تلك الفترة، إلا أنني كنت محظوظاً برعاية أساتذة كبار تبنوا موهبتي مثل بابا طاهر زمخشري وإبراهيم خفاجي وعمر كدرس، ما جعلني أقدم منذ فترة مبكرة أغنياتي الخاصة إلى جانب أغنيات التراث، وحتى هذه الأخيرة كانت تعد لصوتي خصيصاً، وبعضها أغنيات لفنانين كبار، إلا أنها تعد لي بشكل أشبه ما تكون بنشأة جديدة للأغنية تتناسب مع السائد حينذاك، كأغنية «يا نسيم الصبا سلم على باهي الخد... نبهه من منامه». وفي رحلتي الفنية الأولى إلى بيروت عام 1964، بدأت شخصيتي الفنية تتكون، لاسيما أنني رافقت أستاذيَّ طاهر زمخشري وعمر كدرس، ما ولَّد أغنية «خاصمت عيني من سنين» من كلمات الطاهر وألحان السوري محمد محسن.. وهناك لاحظت أن الفنانين السعوديين يملأون الاستديوهات والمدرجات كمسرح مصيف عالية الذي استقبل كبار الفنانين العرب، ومنهم طارق عبدالحكيم وعبدالله محمد وطلال مداح وجميل محمود وفرج المبروك وغيرهم. أما في عام 1965، فحللت ضيفاً على إذاعة الكويت خلال رحلتي الفنية الأولى لها، وسجلت أغنيات مهمة ساعدتني على الانطلاق فنياً وتحديد هويتي كمطرب قادم للساحة الفنية العربية، وليس الخليجية فحسب، ومذاك أصبحت الكويت ملعبي والساحة الأغنى جمهوراً ومحبين، وللحقيقة لا يقابل جمهوري المساهم في صناعة حضوري في جدة، سوى جمهور الكويت، الذي يبادلني التجاذب والتشجيع. 3 «غريب».. بوابة دخولي إلى عالم «النبطية» خدم «مسرح التلفزيون» - إعلامياً - كثيراً من الفنانين في المرحلة الأولى الذي كان إطلالة بالفعل فيها الكثير من الخدمات، أولاها تأكيد مشروعية الفن الغنائي، ثانيتها إشاعة الترفيه بين الناس، فهو فرصة للفنانين لتقديم ما لديهم من أغنيات بشكل موسمي، إذ أصبح الناس ينتظرون مواسم برنامج مسرح التلفزيون لملاقاة فنانيهم المفضلين. وكان فرسان هذا المسرح فنانينا مثل طارق عبدالحكيم، وعبدالله محمد، وطلال مدَّاح، وشملني والحمد لله هذا التشوق والانتظار في الستينات. كما شهد مسرح الإذاعة توقيع شهادة الميلاد الأولى لطلال مداح في «وردك يا زارع الورد» في المبنى القديم بجدة بحي الكندرة أمام أشهر فنادق جدة آنذاك «قصر الكندرة» كما شهد إقامة رموز الفن الكبار عند زيارتهم لجدة مثل أم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، وعبدالحليم حافظ، وأحمد رامي، وسعد عبدالوهاب، وكثيرين. ويظل مسرح الإذاعة شاهداً على مولد واحد من أقدر الفنانين السعوديين الفنان المحتجب حسين فقيه، الذي اشتهر في الستينات بأغنيات «جميل وأسمر شغل قلبي، حبيبي يا لون الزهر ياللي كلامك درر» إلا أنه احتجب مبكراً. ومن وجهة نظري أعتبر هذا المسرح المضمار الإيجابي لتقديم أغنية سعودية مميزة وحديثة منذ نهاية الستينات وبالتحديد بين عامي 1970 و1971 الذي شهد عطاءً ثرياً لأغنيات خالدة وبداية منعطف ثقافي جميل لألوان فنية من النبطيات والسامري في أغنيات أصبحت علامات مهمة في مشواري الفني، كما أتيحت لي الفرصة في تعزيز نشاطي لتكريس نجاحي، بدعوتي للمشاركة في المسرح مع فنانين مثل وديع الصافي، وفهد بلان، وإحسان صادق، وكثيرين غيرهم.. المهم هنا أن المسرح شهد منذ عام 1970، اتجاهاً فنياً جديداً وهو دخولي عالم الأغنية «النبطية» بوضوح أكبر، بداية من أغنية «غريب والله غريب». وتوالت بعدها العديد من الأعمال التي سجلت نجاحاً جماهيرياً وفنياً، وتحديداً مع الشاعر فالح الذي دعمت كلماته بداياتي على مسرح التلفزيون، بعدما قدمت الكثير من الألوان الحجازية مع أحمد صادق وعمر كدرس.. كما تعاونت معه 3 أغنيات (رحت يم الطبيب والمعروفة ب«جرح المودة»، سبحان الخلَّاق الباري، شفتك وزاد بي الولع والشوق)، ما ثبَّت اسمي كفنان على خشبة المسرح. 4 «ظبي الجنوب».. كتبها «مفتش زراعي» وأثارت الروايات أعتز كثيراً بالأغنيات الوصفية التي قدمتها في مستهل حياتي الفنية.. فهي إعلامية ووصفية، ونجاحاتها تطلبت مني إدراجها في قوائم العديد من الحفلات، ومن أشهر وأجمل ما كتب عن الجنوب تلك اللوحة الوصفية التي تغنى بها إبراهيم خفاجي متنقلاً بين مدن عسير «مرني عند الغروب» واستطعت إلباسها ثوباً موسيقياً قشيباً مرتدياً حللاً تتناسب مع كل بلدة يتطرق لها النص، ما جعلها أيقونة غناء الجنوب وتطلب باستمرار في حفلاتي. وتناولها الناقد والكاتب الدكتور علي الشهري في أجمل ما كتب عن التغني بأبهاوعسير: «عندما تنجح الأغنية وتشتهر بين المستمعين لا أعلم كيف تتكوَّن حولها القصص والروايات المنسوجة من وحي الخيال، وقد تجد بعض المستمعين يتمسَّك بروايةٍ مغلوطة سمعها عن قصة أغنية ما أكثر من الرواية التي يذكرها الكاتب والملحن»! ومن الأغاني الناجحة وكثرت عنها الروايات «ظبي الجنوب»، كلمات عرَّاب الأغنية السعودية إبراهيم خفاجي يرحمه الله، هي أغنية وصفية في أرض الجنوب تجاوز نجاحها حدود الإقليمية، إذ أصبحت على لسان الهواة في جلساتهم في مطلع حياتهم الفنية. ولكتابتها قصة جميلة، لاسيما أن الخفاجي كان يعمل فترة من حياته الوظيفية ك«مفتش زراعي» في جدة، وكان يتردد من وقت لآخر على مكاتب الوزارة في أبها، وخلال إحدى زياراته، مطلع السبعينات الميلادية، قرر كتابة أغنية وصفية عن أرض الجنوب معتمداً على مكاتب الزراعة يومها في المنطقة (أبها، السودة، الخميس، بلسمر، بلحمر، النماص)، فخرجت بأسلوب حواري (ديالوج)، ممتع بينه وهذا الظبي الفاتن، ويسأله من أي الأماكن؟ أنت من أبها الملاح؟ أم أنت من سودة عسير؟ أم أنت من أهل الخميس؟ أم أنت بالله أسمري؟ هل أنت من أهل النماص؟ وفي كل مرة يجيبه الظبي بالنفي! واعتمدت في لحن الأغنية على إيقاع «الخطوة» من تراث المنطقة الفلكلوري، وعند طرحها حققت نجاحاً لا يزال مستمراً حتى الآن، ولا يمكن أن أغني في مهرجان أبها إلا وتكون «ظبي الجنوب» حاضرةً ضمن أغنيات الحفلة. تلتها مجموعة أخرى من الأغنيات، تغنيت بها بأبها وما حولها، منها قصيدة «يا عروس الرُبا الحبيبة أبها» من شعر الدكتور غازي القصيبي وألحان عمر كدرس -رحمهما الله-، و«أنورت سودة عسير»، و«يا سحايب سراة أبها» من أشعار الأمير خالد الفيصل، و«الهوى جنوبي» كلمات نجدية، فضلاً عن العديد من الأوبريتات والأغنيات الوطنية التي تضمنت الإشارة إلى أبها ومنطقة عسير يصعب حصرها هنا. 5 «لورا» كتبها شاعران.. فمنعت من المسرح ! كثيراً ما يواجهني أصحاب المزاج الخاص في الغناء، أثناء تحضيري لحفلاتي هنا وهناك بطلب أغنية ما ومزاج غنائي ما في آن.. ودوماً تكون إجابتي أن هناك أغنيات للمسرح، وأغنيات ثانية للجلسات، وثالثة لا تتخطى حدود الاستوديو، ورابعة صالحة لكل وقت ومكان. فمثلاً أغنية الفِكْرَين والمزاجَيْن والكاتبَيْن غالباً ما تكون واضحة معالمها في النص والصورة النهائية لها أو في أدواتها.. أي أن للمفردة المستخدمة ثمة أشياء متباينة، وقد تكون متوافقة، تخرج منها أغنية جد جميلة ولكن تأطيرها وفكرتها النهائية يصعبان علي غناءها على المسرح. وعلى سبيل المثال أغنية «خطأ»، رغم أني قدمتها عدة مرات على المسرح، وقد غنيتها لأول مرة على أحد مسارح القاهرة في منتصف السبعينات، ولاقت نجاحاً جماهيرياً كبيراً، إلا أنها من النوع الذي يصعب أداؤه على المسرح، ذلك كون نصها يحمل فكرين مختلفين، إذ كتب مطلع الأغنية الأمير الشاعر خالد الفيصل، ثم طلب من الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن إكمال النص.. والحال ذاته كان بالنسبة لأغنية «لورا» التي يطلب الجمهور في بعض الأحيان أن أغنيها على المسرح، غير أنها ولنفس العوامل الصانعة للنص، لم أقدمها للمسرح، إذ إن ولادة النص كانت في السبعينات ضمن جلسة فنية جمعتني والشاعرين الأمير خالد الفيصل والدكتور غازي القصيبي، إذ جاءت القصيدة كسجال بين الشاعرين الكبيرين، إذ كتب القصبي: «ذاب من فرط حسنها الفنان لورا تلك لورا فداء لورا الغواني» فجاء رد الأمير الشاعر: «تتوارى عن العيون احتشاما وحنانا بمهجة الفنان أنت «غازٍ» ومثلها ينشد الرفق صواباً في لجة من حنان» ثم أكمل القصيبي يرحمه الله: «وتوارت تحت الحنايا فكانت نابضاً في مشاعري وكياني» ثم تصرفنا في الصورة النهائية للنص، بتغيير بعض كلمات، وقدمت في النهاية بصورتها التي تسمعونها.