انتهت مساء الثلاثاء الماضي مهلة الأيام الخمسة، التي حددها الاتفاق الأمريكي التركي، بخصوص وقف عملية نبع السلام التركية شمال سوريا، لتبدأ مرحلة جديدة من العملية، هذه المرة مع الجانب الرّوسي. بعد انقضاء مدة الاتفاق التركي - الأمريكي، يبدو أن النبع لم يجف تماماً، وإن فقد زخم تدفقه.. وغير مسار جريانه، ولم ينتهِ بعد، إلى أهدافِ مصبه. الأهم في عملية نبع السلام التركية، أنها فقدت مخالب وأنياب زخم تدفقها، حين تفجرها، ولم تبلغ منتهاها، بالصورة التي أرادت أنقرة أن تنتهي إليها. كما أن جريان العملية، في نفق روسيا السياسي والدبلوماسي، وربما الأمني، غير ما كان تدفقها في منحدرات واشنطن السهلة.. السريعة، والحاسمة. ما حصلت عليها أنقرة في مرحلة ما قبل سريان الاتفاق مع الأمريكيين، غير ذلك الذي يمكن أن تحصل عليه، مع موسكو، لاحقاً. تبقى عملية نبع السلام غير مكتملة تماماً، من ناحية ما خططت له أنقرة، بدايةً، بدخول العملية في النفق الرّوسي الأبطأ تدفقاً.. والأخفى معلماً.. والأبعد استقلالية وتحكماً في حركتها، وأخيراً: أقل فرصاً في تحقيق الغاية منها. هذا الاستنتاج تؤكده الخريطة، التي رسمها الاتفاق الروسي - التركي، في موسكو، مساء يوم الثلاثاء الماضي، عندما انقضت مهلة المئة والعشرين ساعةً، التي وردت في اتفاق أنقرة بين الترك والأمريكيين. ليُدْخِلَ اتفاق سوتشي الجديد العملية (الأزمة)، إلى هدنة جديدة.. وبعد ذلك إلى مرحلة غير محددة زمنياً، تكتنفها الكثير من الضبابية، محاطةً بالمزيد من التوتر وعدم الاستقرار. الاتفاق أقر السيطرة التركية التامة على المنطقة، التي وقفت عندها المرحلة العسكرية لنبع السلام وهي المسافة بين مدينتي تل أبيض غرباً ورأس العين شرقاً بعمق 35 كم جنوباً، قاطعةً الطريق الدولي M4، الذي يربط الشمال السوري بين منبج والقامشلي، على قوات سوريا الديمقراطية، وحتى على احتمال تواجد أي قوات روسية أو تابعة للنظام، في هذه المنطقة. ميزة استراتيجية، لا يمكن تجاهلها، حققتها عملية نبع السلام وهي تتدفق في المنحدرات الأمريكية السهلة والمنبسطة. رغم أن اتفاق سوتشي (22 أكتوبر) أقر بواقع سيطرة أنقرة على المساحة التي وصلت إليها قواتها وقوات المعارضة السورية الموالية لها في المنطقة ما بين مدينتي تل أبيض ورأس العين بعمق 35 كم وصولا إلى الطريق الدولي M4، إلا أن بقية المنطقة المعلن عنها في خطة نبع السلام الأولية، ما تزال بعيدة عن سيطرة الأتراك. القوات التركية لم تدخل منبج، كما كان مخططاً لها، كما أنها لم تدخل عين العرب كوباني، غرباً.. وأيضاً: لم تصل إلى حدود العراق مع سوريا، شرقاً، وأبقت مدينة القامشلى، دون اتفاقٍ بشأنها. مع ذلك أقر اتفاق سوتشي، بالهواجس الأمنية لأنقرة في المنطقة، التي وردت في خطة نبع السلام الأصلية.. وأكد الاتفاق على خلو هذه المنطقة من قوات سوريا الديمقراطية الكردية، خلال 150 ساعة من سريان الاتفاق.. على أن تُستبدل أماكن تواجدها بدوريات مشتركة روسية تركية، تسهيلاً للعودة الطوعية للاجئي هذه المناطق السوريين المقيمين في تركيا. في النهاية: لم ينس الاتفاق التأكيد على التزام الطرفين بوحدة الأراضي السورية، وليس فقط تفهم الهواجس الأمنية التركية. وإن بدا اتفاق سوتشي بين الرئيسين بوتن وأردوغان، وكأنه يجعل عبء عملية نبع السلام أقل تكلفة على أنقرة، إلا أنه، في المقابل، أهداف العملية، بالنسبة لأنقرة، ليست بالضرورة أيسرُ منالاً. منذ البداية، كان غياب الطرف الرّوسي عن اتفاق الأمريكيين والأتراك لوقف الشق العسكري من العملية، ينبئ بمشاكل روسية تركية مقبلة. روسيا وإن ارتاحت لخروج الأمريكيين من سوريا، هي بالتأكيد لن ترحب بدخول الأتراك لمنطقة نفوذهم الجديد والمتنامي، في سوريا وشرق المتوسط. في المقابل: الروس في حاجة إلى تعاون الترك في مسار الأسْتَانة التي تريد موسكو أن ترسم من خلاله مستقبل سوريا. كما أن موسكو تسعى لأن تضمن صمت أنقرة تجاه ما تخطط له من احتمال التعامل العنيف مع بؤرة المقاومة الحصينة في إدلب. موسكو، تبدو مصممة على تنفيذ اتفاقها الأخير، ربما بصورة لا تقل عن حماس الأتراك، لكن هذا لا يعني أن الاتفاق سوف يمضي، بلا مشاكل بين الجانبين. صحيح: الرّوس تعهدوا بِخِلّوِ المنطقة من المقاتلين الأكراد، وإلا خَلّوا بينهم والأتراك، إلا أن مثل هذا التعهد سبق وأن أعطاه الأمريكيون للترك، في مهلة ال 120 ساعة. ليس مضموناً أن يوفي به الروس في مهلة ال 150 ساعة الجديدةِ، التي ستنتهي اليوم الساعة: 6 مساءً. كما أن هناك متغيراً آخر، ألا وهو: موقف وموقع النظام السوري من الاتفاق. صحيح أن الاتفاق أرجع ذلك لاتفاقية أضنة (20 أكتوبر 1998)، إلا أن موسكو أعلنت: أن روسيا هي الدولة الوحيدة، التي من حقها الإبقاء على قواتٍ لها في الأراضي السورية، بطلب من حكومة دمشق «الشرعية». وهذه رسالة ليست للأتراك، فقط... بل أيضاً: للإيرانيين وحلفائهم. عملية نبع السلام التركية، تجري بعد اتفاق سوتشي الأخير، في نفقٍ غامضٍ، لن يُرى مسار جريانه، ولن يُسمع هدير تدفقه، مثل ما كان يجري في مرحلته الأولى المتدفقة بحماس وثقة في منحدرات الانسحاب الأمريكي من سوريا. عقبات كثيرة سوف تواجه اتفاق موسكو الأخير بين بوتن وأردوغان حول الوضع شمال سوريا. هناك فرق بين الخروج الأمريكي السريع والمفاجئ من المسرح السوري.. والإصرار الروسي العنيد بالبقاء في المنطقة، مهما كلّف الأمر. الشيء المؤكد، هنا: أن أنقرة ليس مضموناً أن تحصل على ما تريد، بتكلفة أقل، وإن كان بصعوبة أكبر.. وقد حِيلَ بينها ومواصلة زخم عملية نبع السلام (عسكرياً)، في بدايتها، خاصةً، بعدما دخل مسار جريانها في النفق الرّوسي. * كاتب سعودي [email protected]