لطالما كانت «العونية» السياسية كربلائية الطابع، فهي بدأت حكاية مظلوميتها بإقصاء قائدها من قصر بعبدا في 13 تشرين الأول 1990، وملاحقة مناصريه في بيروت بين 1990 و2005. واستُكملت بحرمان ميشال عون من رئاسة الجمهورية، التي كان يعتبر أنّه الأحق بها، وانتخاب ميشال سليمان بدلاً منه في 2008. لكن حين انتُخِب رئيساً للجمهورية في 31 تشرين الأول 2016، هل انتهت المظلومية؟ سريعاً دبّج محيطو الرئيس عون شعار «العهد القوي»، عنواناً لستّ سنوات عونية في بعبدا. والقوّة المقصودة هنا جاءت بعد تاريخ من «الإحباط المسيحي» بدأ في 1990 بنفي عون، ثم بسجن سمير جعجع وحلّ حزبه، «القوات اللبنانية» في 1994، ونفي أمين الجميّل، والتضييق على العمل السياسي المسيحي طوال 15 عاماً. ورغم رواية «الإحباط» طوال 15 عاماً، إلا أنّه منذ وصول عون إلى بعبدا، بدأ جبران باسيل يخطّط للاستيلاء على حصص في المذاهب الأخرى. فشارك في خياطة قانون انتخاب نسبيّ مذهبيّ، ثم عاد ليعلن عن طموحه في أن يكون تياراً عابراً للطوائف. فكيف جمع باسيل بين المذهبية المناطقية في القانون، وبين رغبته في «العبور» بتيّاره داخل الطوائف الأخرى؟ كيف فصّل القانون ليحرم «تيار المستقبل» من نواب مسيحيين يمثلونه، ثم راح يبحث عن نواب سنّة ودروز ليكونوا من حصّته؟ فمن دارة طارق الخطيب في حزيران 2017، وهو وزير سنيّ من حصّة الرئيس عون في حكومة عهده الأولى، أعلن عن طموحه في أن يقود «التيار السني الثاني» بعد تيار المستقبل، «من خلال القانون النسبي». قبلها أعلن عن رغبته في «أن نكون التيار الشيعي الثالث»، من بعلبك، في أيار 2017. وخلال تشكيل حكومة عون الثانية، بعد انتخابات 2018، خاض معركةً كبيرة لتوزير الدرزي صالح الغريب من حصّته، باعتباره يمثّل النائب طلال أرسلان، واحداً من 8 نواب دروز، 6 منهم مع وليد جنبلاط، والسابع هو أنور الخليل، يمثل حاصبيا، في توافق بين جنبلاط والرئيس نبيه برّي. كذلك عطّل تشكيل الحكومة الثانية لتوزير سنّي يمثّله، هو حسن عبدالرحيم مراد، وضرب عرض الحائط تفاهماً مكتوباً بين «التيار الوطني الحرّ» وبين «القوات اللبنانية» يقضي بتقاسم الوزراء المسيحيين مناصفةً. هذا النهَم الباسيلي، لاستثمار «العونية»، في أعلى مراحلها، داخل قصر بعبدا الجمهوري، في الاستيلاء على حصص وزارية سنية ودرزية ومسيحية – نهَم لم يجرؤ على ممارسته مع الحصة الشيعية المقفلة – هذا النهَم كان باسيل، ولا يزال، يسير به جنباً إلى جنب مع معزوفة «استعادة حقوق المسيحيين». فهل «استعادة حقوق المسيحيين» تمرّ باقتطاعه وزيراً درزياً من أصل ثلاثة، أي ثلث التمثيل الدرزي، بفوز نائب درزي واحد على لوائحه في انتخابات 2018، هو أرسلان؟ وهل «استعادة حقوق المسيحيين» تمرّ من خلال الاستيلاء على صلاحيات رئيس الحكومة السنّي، بالمشاركة، من خارج الدستور، في تأليف الحكومة، كما فعل باسيل؟ وبإعلان أنّ «رئيس الجمهورية ترأس مجلس الوزراء بحضور رئيس الحكومة والوزراء»؟ وهي صيغة دأب القصر الجمهوري على توزيعها من بعبدا. وهل «استعادة حقوق المسيحيين» تكون بتعطيل مجلس الوزراء 40 يوماً لأنّ باسيل أراد أن يفرض بنداً على جدول الأعمال وأن يجبر الرئيس سعد الحريري على طرحه، وهو إحالة حادثة قبرشمون على «المجلس العدلي». فيما ينصّ الدستور على أنّ الرئيس السني هو من «يضع جدول الأعمال»، و«يطلع عليه رئيس الجمهورية مسبقاً». واستطراداً، يعتبر كثيرون أنّ حركة جبران باسيل كلّها، في العمق، تنفيذٌ لأجندة حزب الله، ب«واجهة» مسيحية، من قانون الانتخاب وصولاً إلى «الاستيلاء» على حصص لدى السنّة والدروز، وضرب «القوات».. وهذا ليس احتمالاً بعيداً. لكن الأهمّ أنّه خلال أشهر قليلة انتقلت حكاية المسيحيين اللبنانيين التي يرويها ميشال عون وجبران باسيل، من «إحباط» إلى «عهد قوي»، لم يلبث أنّ راح يُستثمر في الاستيلاء على ما أمكن من حصص في مذاهب وطوائف أخرى. فهل كان الإحباط مسيحيا أو عونياً؟ وهل صارت القوّة، استطراداً، مسيحية أو عونية؟ و«الإحباط» هذا سببه وصاية النظام السوري على لبنان، التي منعت «التمثيل الصحيح» للمسيحيين في السلطة بين 1990 و2005. النظام الذي يتحالف معه باسيل منذ 2005 إلى اليوم. الإجابة بسيطة.. منذ دخول «العونية» السياسية إلى جنّة السلطة في لبنان، بدا أنّ هناك إعادة إحياء لمنطق «الحرب الأهلية». فالعونية، الآتية من زمن ما قبل «الطائف»، كانت ولا تزال على خلاف مفتوح مع هذا الاتفاق، الذي نزع الكثير من الصلاحيات من يد رئيس الجمهورية الماروني، ووزّعها على الوزراء وعلى رئيس مجلس الوزراء السنّي. «استعادة حقوقنا»، يقول جبران باسيل. والعماد ميشال عون، قبل انتخابه رئيساً، كان يرفع شعار «استعادة حقوق المسيحيين»، وقال إنّ انتخابه رئيساً يعيد هذه الحقوق. اليوم يحضّر جبران باسيل لمؤتمر «اللقاء المشرقي الأوّل»، الذي سيعقد في بيروت خلال تشرين الأوّل المقبل، بعنوان «لقاء صلاة فطور – الحوار نهج وطريق سلام – عن إشكاليات التعددية والحريات». ونواة هذا «اللقاء المشرقي»، كما يقول العلم والخبر الصادر عن وزارة الداخلية في حزيران 2017، هم أعضاء «خلية السبت»، الذين كان يجمعهم العماد عون في دارته بالرابية، قبل انتخابه رئيساً. وهم خليط من بقايا النظام السوري، وممن يرى فيهم عون «عقولاً مسيحية إستراتيجية»، أبرزهم إيلي الفرزلي، سليم جريصاتي، كريم بقرادوني، عبدالله بو حبيب، حبيب افرام، والزميل جان عزيز. وقد امتنع وزير الداخلية في حينه، نهاد المشنوق، عن توقيع العلم والخبر لأكثر من عام، بسبب «الأهداف الطائفية» للجمعية، وعاد ووقّعها نتيجة ضغوط غير منطقية من رئيس مجلس الوزراء. هذا «اللقاء»، بحسب ما رشح من منظّمين له، في عدد من وسائل الإعلام، سيكون منصّة لتبادل الخبرات والأفكار، بين «الأقليات المظلومة» في المنطقة، من أكراد وأيزيديين وبهائيين، وبين أقليات «ظالمة»، من علويين وشيعة مثلاً. والتسريبات تتحدث عن دعوة ممثلين عن «مركز الملك عبدالله لحوار الأديان والثقافات»، وهي دعوة سيكون غريباً إذا تمّت تلبيتها. إضافة إلى شخصيات إيرانية، وأخرى أمريكية وأوروبية على تماس وتأثير بقضايا المنطقة. لكن ماذا عن سنّة العراق؟ هل «سقطوا سهواً» من الدعوة؟ فهم أقلية بالمعنيين، السياسي والديمغرافي، وتعرّضوا لأقىسى أنواع الاضطهاد السياسي والميداني منذ 15 عاماً. «اللقاء» يراد منه إسقاط صفة «المظلومية» على مسيحيي لبنان، ووضعهم في سلّة واحدة مع مسيحيي العراق ومسيحيي سوريا، الذين عانوا ما عانوه طوال السنوات العشر الماضية، على أيدي الأنظمة وعلى أيدي «داعش». لكن في هذا اللقاء، وقبله، وبعده، ربما على جبران باسيل أن يحسم خياره، بين أن يكون معبّراً عن «إحباط مسيحي» ويريد «استعادة حقوق المسيحيين»، وبين أن يكون ممثّلاً لمرحلة «العهد القويّ» في لبنان، المفقودة والمُفتقدَة منذ خمسين عاماً. أن يحسم إذا كان قد بدأ في هجوم تاريخي مضادّ على السنّة في بيروت والمدن الأخرى، وعلى الدروز في الجبل، للثأر من «الطائف»، الذي يعتقد أنّهم استقووا به على المسيحيين خلال عهد هذا الاتفاق بين 1990 و2005، وبين أن يكون جزءاً من «الأقليات المضطهدة» في المنطقة، مثل الأكراد الذين لا صديق لهم غير الجبال، والأيزيديين الذين أبادت معظمهم «داعش»، و«الشيعة» الكربلائيين المطالبين ب«شراكة» في اليمن وسورياولبنان والبحرين والسعودية وفلسطين، وبين أنّ يكون جزءاً من «تحالف الأقليات» التي تريد أن تحكم، بوجه «الأكثرية». أقلياتٌ تشمل إسرائيل، من خلال مراعاتها «حقّ إسرائيل بالوجود»، التي «لا خلاف أيديولوجي معها»، كما قال باسيل نفسه، كوزير للخارجية، في مقابلة مع قناة «الميادين» المُمانِعة في كانون الأول 2017. على جبران أن يخبرنا ماذا يريد، هل المسيحيون «أقوياء» اليوم، أو «ضعفاء»، فنحن فعلاً لا نعرف ماذا يبيع جبران: قوّة المسيحيين، أو ضعفهم؟ على جبران باسيل أن يحسم خياره، فهل هو يريد من هذا «اللقاء المشرقي» أن يتوّجه «قائد مظلومية الأقليات» في المنطقة، ليطلق منه حملته الدولية للترشّح إلى رئاسة الجمهورية في لبنان، أو يريد أن يظهره ك«قائد قويّ» في لبنان والمنطقة، بتفويض شامل ليستعيد حقوق هذه الأقليات، ضمن مشروع قوي، (ومنتصر؟) ترعاه روسيا وإيران، لحماية حقوق هذه الأقليات وجعلها «حاكمة» و«شريكة» للأكثرية، أو تراه يعمل، دون وعي، ليأخذ مسيحيي لبنان إلى مصير مماثل لمصائر مدعوّيه من العراقوسوريا وغيرها من دول الاضطهاد. فهو لا يستطيع أن يحميهم حيث هم، وفي الوقت نفسه لا يستطيع الإتيان بهم إلى لبنان، لأنّه ليس دولة – ملجأ لهم، ولا يصلح لاستقبالهم، وإلا لكانوا لجأوا إليه. غالباً، المقامرة الطائفية ليست مضمونة النتائج.