من الملاحظ الآن اعتقاد البعض أن «الاشتراكية» قد اختفت من خارطة العالم السياسية الاقتصادية إلى غير رجعة، وحل محلها «الرأسمالية»؟! هذا الاعتقاد ليس صحيحا على إطلاقه. فهذا الشيء الذي يسمى ب«الاشتراكية» (وله عند آخرين مسميات أخرى ) لم يندثر.. ولا يمكن أن يندثر.. بل إنه وجد ليبقى. وهذه المقولة، لا يقبلها أحد -من غير المتخصصين- للوهلة الأولى. فمعظم الناس الآن يتغنون -بمناسبة وبدون مناسبة، وبحق وبدون حق- بالرأسمالية التي يظن الكثير أنها الطريق المستقيم، وأن الاشتراكية هي توجه سيئ، وأنها أصبحت من الماضي! إن «الإيديولوجية» الاقتصادية السياسية هي عبارة عن: اعتقادات (اقتصادية سياسية) معينة، يسعى معتنقوها لتطبيقها في أرض الواقع، على مستوى البلد، أي بلد. ويمكن -اختصارا- أن نقول: إن هذه القناعة (أو العقيدة، أو الاعتقاد، أو التوجه) تتعلق بما ينبغي أن تقوم به حكومة البلد المعني، تجاه شعبها.. ومدى تدخلها في النشاط الاقتصادي والاجتماعي لشعبها، لتحقيق المبادئ العامة التي تنادى بها تلك العقيدة. هناك، إذن، في الواقع، مدخل لمعرفة جوهر الإيديولوجيات (أو التوجهات) السياسية الاقتصادية المعاصرة.. يتمحور حول: «الأعمال» والوظائف التي على الحكومة -أي حكومة- أن تقوم بها تجاه شعبها، إضافة إلى أعمال الحكومة التقليدية المعروفة. لنركز على هذا المدخل.. الذي عبره يمكن شرح هذه المسألة وغيرها، كأفضل وأبسط ما يكون الشرح. **** وبالطبع، فإن الإيديولوجيات لا تعرف فقط من خلال وظيفة (أعمال) الحكومات.. إذ للعقائد عدة أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.. إلخ. ولكن -ومع ذلك- تظل «وظيفة» ونشاط الحكومة الفعلي أبرز وأهم هذه الأبعاد. ويمكن القول: إن الحكومة -أي حكومة- تقوم، في الوقت الحاضر، بعدة أعمال ووظائف، يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسين، هما:- وظائف أساسية: وتشمل: توفير الأمن وحفظ النظام، وحماية الحريات العامة المختلفة، وضمان تنفيذ القوانين، وإدارة العلاقات الخارجية. وظائف ضرورية: وهى التي تتطلب «تدخل» الحكومة في النشاط الاقتصادي والاجتماعي لشعبها، عند الحاجة.. بما يخدم المصلحة العامة، ويوفر الاحتياجات الأساسية للشعب، ويدعم رفاهه، ويحمى غالبيته من العوز (الفقر، الجهل، المرض) والاستغلال والإذلال. ومنذ سقوط مبدأ «الحكومة الحارسة» (التي يقتصر عملها على حفظ الأمن).. ومع بداية القرن العشرين بخاصة، ونتيجة لتزايد الدور السياسي الشعبي، وجدت معظم حكومات العالم نفسها تحت ضغوط متزايدة ل«التدخل» في النشاط الاقتصادي والاجتماعي لشعبها.. بهدف: حماية غالبية الشعب وضمان رفاهها.. والحيلولة دون ظهور فئات مستغلة.. تثري على حساب الأغلبية. فبدأت كل حكومات العالم «تتدخل» في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية لبلادها، في محاولة دؤوبة لتحقيق هدف «الصالح العام». فالكلمة الفصل هنا هي «التدخل» الحكومي، وبأي قدر يكون في ممارسة «الأعمال الضرورية»..! ويتخذ هذا التدخل صورا مختلفة.. تبدأ بسن القوانين والسياسات المختلفة المنظمة للنشاط الاقتصادي والاجتماعي -بما يخدم الصالح العام- مرورا بالتخطيط (التوجيهي والتأشيرى، وغيرهما) وانتهاء بممارسة الإنتاج والتسويق والتوزيع. **** لقد أصبحت كل حكومات العالم تقوم بقدر ما معين -أو يمكن تعيينه- من «الأعمال الضرورية»، إضافة إلى قيامها ب«الأعمال الأساسية. فأي حكومة -مهما كان توجهها العقائدي أو الفكري- تضطلع بذلك.. عبر «التدخل»، بصوره المتنوعة، في النشاط الاقتصادي والاجتماعي لشعبها. لا خلاف حتى في هذا العصر؛ عصر «العولمة» القائمة على «الخصخصة»، على ضرورة تدخل الحكومة في هذه الأمور، وبالقدر الذي يخدم صالح أكبر قدر ممكن من الشعب. ولكن الخلاف وقع -ويقع- حول «مدى» هذا التدخل (الحكومي). وهذا الخلاف (والاختلاف) -حول المدى- أدى ويؤدي إلى ظهور الاختلافات الفكرية، والإيديولوجيات السياسية الاقتصادية المتنوعة.. علما بأن التدخل الحكومي يتم غالبا على حساب المبادرة الفردية، أو الحرية الاقتصادية (القطاع الخاص). ويمكن القول إنه وبخصوص «مدى» تدخل الحكومة في النشاط الاقتصادي والاجتماعي للشعب (الأعمال الضرورية) توجد الآن ثلاثة اتجاهات كبرى، هي:- المذهب الفردي: ويشار إليه -عند العامة- ب«الرأسمالية».. والأصح أن يسمى «الفردي» لتفضيله للحرية الفردية. كما أن الرأسمالية (التي تقوم على أساس الحرية الاقتصادية) هي الجانب الاقتصادي فقط من هذا الاتجاه.. الذي يؤكد على حصر التدخل الحكومي في أضيق نطاق ممكن، وإعطاء القطاع الخاص أكبر حرية ممكنة. ويعمم عدم التدخل الحكومي في كل الأمور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للبلد التي تأخذ به. المذهب الاشتراكي: وهو نقيض «الفردي».. وتبلور كرد فعل على مساوئ الأخير. وهو يؤكد على ضرورة تدخل الحكومة -لأقصى حد ممكن- في الشؤون الاقتصادية وغيرها للبلد.. والحيلولة دون انفراد قلة في المجتمع بالثروة والنفوذ والسلطة.. وتمكين غالبية المجتمع من التمتع بثرواته على أساس شيء من المساواة. وتمثل هذا المذهب (القديم قدم المجتمعات البشرية) في عدة إيديولوجيات، منها: الاشتراكية الديمقراطية، والماركسية، وغيرهما كثير. وقد أخذت الماركسية -المنسوبة إلى ماركس- من هذا المبدأ بعض أسسه وأضافت إليه أسسا أخرى هي أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع الإنساني. وهناك منظمة عالمية كبرى ل«الاشتراكية الدولية».. تضم في عضويتها مئات الأحزاب السياسية الاشتراكية (الديمقراطية) من شتى دول العالم، وتعقد اجتماعات دورية للأعضاء بها، كما أن الدول «الريعية» تمارس قدرا لا يستهان به من هذا التوجه، كما قد نوضح فيما بعد. المذهب الاجتماعي: وهو اتجاه وسط بين الفردية والاشتراكية، وأنصاره يدعون إلى: وجوب ضمان توازن بين التدخل الحكومي والحرية الفردية، وإن كانوا يقدمون مصلحة الجماعة على مصالح الأفراد. ويمكن أن نقول: إن هذا التوجه هو الأقرب للتوجه الاقتصادي الإسلامي المؤكد على الوسطية في كل شيء.. انطلاقا من مبدأ «لا ضرر ولا ضرار». **** ويمكن -تبعا لذلك- أن نضع كل حكومة من حكومات العالم الحالية في أحد هذه التقسيمات الثلاثة.. اعتمادا على مدى تدخلها في النشاط الاقتصادي والاجتماعي لشعبها، أي مدى قيامها ب«الأعمال الضرورية». وسنجد أن هناك حكومات ينطبق على توجهها -الفعلي- الفردية، وأخرى الاشتراكية، وأخرى تعتنق الاتجاه الاجتماعي، وإن لم تتحدث بذلك. مع وجود تفاوت -بالطبع- في مدى التدخل أو عدم التدخل، من حكومة لأخرى، ومن وقت لآخر. والخلاصة، أنه حتى أكثر حكومات العالم اعتناقا للمذهب الفردي -الحر- تضطر للقيام ببعض الأعمال الضرورية.. أي لممارسة شيء من التدخل الحكومي.. أو بكلمات أخرى لممارسة قدر -قل أو كثر- من «الاشتراكية».. فكيف يقال إن الاشتراكية اندثرت؟! إن الذى اندثر، أو في سبيله للاندثار الوشيك هو الاستبداد السياسي. * كاتب سعودي